الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1861 1862 1863 1864 1865 1866 1867 1868 ص: حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان (ح)

                                                وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال: "صلى النبي - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه، يصف صفا خلفه وصفا موازين العدو وكلهم في صلاة، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء فقضوا ركعة".

                                                وحدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا بكر بن بكار القيسي ، قال: ثنا عبد الملك بن حسين، قال: ثنا خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف في حرة بني سليم ... " ، ثم ذكر نحوه غير أنه لم يذكر: "وكلهم في صلاة" وزاد: "وكانوا في غير القبلة".

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فقد أخبر في هذا الحديث أنهم قضوا ركعة ركعة، وأخبر أنهم دخلوا في الصلاة جميعا، فثبت بما ذكرنا من الآثار أن صلاة الخوف ركعتان، غير أن حديث ابن مسعود ذكر فيه دخولهم في الصلاة معا، فأردنا أن ننظر: هل عارض هذا الحديث غيره في هذا المعنى؟

                                                [ ص: 218 ] فنظرنا في ذلك، فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن نافع: " ، أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا، فيتقدم الذين لم يصلوا ويتأخر الآخرون فيصلي بهم ركعة، وينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فتقوم كل طائفة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين ركعتين. . قال نافع: : لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي - عليه السلام -".

                                                فقد أخبر في هذا الحديث أن دخول الثانية في الصلاة بعد أن يصلي الإمام والطائفة الأولى ركعة، والكتاب شاهد بهذا; لأن الله -عز وجل- قال: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فقد ثبت بما وصفنا أن دخول الثانية في الصلاة بعد فراغ الإمام من الركعة الأولى.

                                                وهذا الخبر صحيح الإسناد، وأصله مرفوع وإن كان نافع قد شك فيه في وقت ما حدثه مالك، وهكذا روى عنه أصحابه الأكابر.

                                                حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا قبيصة ، قال: ثنا سفيان ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، - رضي الله عنهما - قال: " صلى النبي - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة منهم معه وطائفة منهم فيما بينه وبين العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة". .

                                                حدثنا فهد بن سليمان وأحمد بن مسعود الخياط ، قالا: ثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - عليه السلام - بمثل معناه.

                                                وقد رواه أيضا سالم عن أبيه مرفوعا.

                                                حدثنا يزيد بن سنان ، قال: ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: ثنا فليح بن سليمان ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كذلك.

                                                [ ص: 219 ] حدثنا أبو محمد فهد بن سليمان ، قال: ثنا أبو اليمان ، قال: أنا شعيب ، عن الزهري ، قال: أخبرني سالم، أن ابن عمر قال: "غزوت مع النبي - عليه السلام - غزوته قبل نجد فوازينا العدو ... " . ثم ذكر مثله.

                                                التالي السابق


                                                ش: أخرج حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من ثلاث طرق; لكونه دالا على أن المأمومين في صلاة الخوف قد قضوا ركعة ركعة، وأخبر أيضا أنهم دخلوا في الصلاة جميعا، فإذا كان كذلك يثبت به أن صلاة الخوف ركعتان فيصير حجة على من يقول أنها ركعة كما ذكرنا.

                                                ثم الطريق الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت ، عن قبيصة ابن عقبة السوائي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري ، عن خصيف -بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء- ابن عبد الرحمن الجزري أبي عون الخزاعي فيه مقال; فعن أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث. وعنه: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وعنه شديد الاضطراب في المسند. وعن ابن معين: صالح. وعنه: ثقة. وكذا قال العجلي وأبو زرعة: إنه ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وروى له الأربعة.

                                                وهو يروي عن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود، وقيل: اسمه كنيته، روى له الجماعة، عن أبيه عبد الله بن مسعود .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده" : ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - فصلى صفا خلفه وصفا موازي العدو، قال: وهم في صلاة كلهم، قال: فكبر وكبروا جميعا، فصلى بالصف الذي يليه ركعة وصف موازي العدو. قال: ثم ذهب هؤلاء، وجاء هؤلاء فصلى بهم ركعة، ثم قام هؤلاء الذين صلى بهم الركعة الثانية فقضوا مكانهم، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء أولئك فقضوا ركعة".

                                                [ ص: 220 ] الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي ، عن سفيان ، عن خصيف ... إلى آخره.

                                                وأخرجه البيهقي مطولا ، ثم قال: ورواه الثوري ، عن خصيف فقال: "صف خلفه، وصف موازي العدو، وكل في صلاة".

                                                الثالث: عن أبي بكرة بكار ، عن بكر بن بكار القيسي البصري فيه مقال، فعن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. ووثقه أبو عاصم النبيل وابن حبان .

                                                وهو يروي عن عبد الملك بن حسين أبي مالك النخعي المعروف بابن ذر، فيه كلام، فعن يحيى: ليس بشيء. وقال الفلاس: ضعيف الحديث منكر الحديث. وقال أبو داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وروى له ابن ماجه، وهو يروي عن خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه عبد الله .

                                                وأخرجه أبو داود : وليس فيه ذكر حرة بني سليم ولا قوله: "وكانوا في غير القبلة" فقال: ثنا عمران بن ميسرة، نا ابن فضيل، نا خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف، فقاموا صفا خلف رسول الله - عليه السلام - وصفا مستقبل العدو، فصلى بهم النبي - عليه السلام - ركعة، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء العدو، فصلى بهم النبي - عليه السلام - ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا".

                                                وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة في "مصنفه" : عن محمد بن فضيل ، عن خصيف ... إلى آخره نحوه سواء.

                                                [ ص: 221 ] فإن قيل: كيف يذكره الطحاوي في معرض الاستدلال لأهل المقالة الثانية والاحتجاج على أهل المقالة الأولى، وقد رأيت ما قالوا في بعض رواته كما ذكرنا؟! وقد قال البيهقي: هذا مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف ليس بالقوي وقال الترمذي: أبو عبيدة لم يعرف اسمه ولم يسمع من أبيه شيئا.

                                                قلت: قال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين، وابن سبع سنين مميز يحتمل السماع والحفظ; ولهذا يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقا وتأدبا.

                                                وأما خصيف فقد ذكرنا أن أبا زرعة والعجلي وابن معين وابن سعد وثقوه، وقال النسائي: صالح.

                                                وأما بكر بن بكار فقد ذكرنا أن أبا عاصم وابن حبان وثقاه.

                                                وأما عبد الملك بن حسين وإن كانوا قد ضعفوه فإن حديثه في المتابعات، وحديث الضعيف إذا ذكر مع حديث الثقة لا يناقش فيه، بل يكون مما يقوى به الصحيح ويصحح به الضعيف.

                                                قوله: "في حرة بني سليم" الحرة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء- وهي أرض ذات حجارة سود. وبنو سليم قبيلة من قيس غيلان، وهو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصيفة بن قيس غيلان .

                                                ثم اعلم أنه لما كان المذكور في طريق حديث ابن مسعود قوله: "وكلهم في صلاة" مما يخدش استدلال أهل المقالة الثانية; لأن مذهبهم أن دخول الطائفة الثانية في صلاة الإمام لا يكون إلا بعد أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة.

                                                أجاب عن هذا بقوله: غير أن حديث ابن مسعود ذكر فيه دخولهم في الصلاة معا، فأردنا أن ننظر هل عارض هذا الحديث -أي حديث ابن مسعود- غيره في هذا المعنى -أي في دخولهم في الصلاة معا- فأخرج في ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو يخبر أن دخول الثانية في الصلاة بعد أن يصلي الإمام والطائفة الأولى ركعة، ثم قال:

                                                [ ص: 222 ] والكتاب شاهد بهذا; وذلك لأن الله تعالى قال: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وهو يدل على شيئين:

                                                الأول: أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل: طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة; لأنه قال: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا

                                                والثاني: قوله: لم يصلوا فليصلوا معك نفى كل جزء من الصلاة، فظهر أن الآية دلت على أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام، وثبت أن دخول الطائفة الثانية في الصلاة بعد فراغ الإمام من الركعة الأولى، فهذا كله موافق لمذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ومخالف لمذهب الخصم; لأن منهم من يقول: يفتتح جميع الصلاة مع الإمام، وهذا خلاف الآية الكريمة.

                                                ولما عارض هؤلاء بقولهم: إن خبر ابن عمر موقوف وخبر ابن مسعود مرفوع فكيف يعارضه؟ أجاب عنه بقوله: "وهذا الخبر" أي خبر ابن عمر "صحيح الإسناد وأصله مرفوع"، وقد دل عليه أن أكابر أصحاب نافع مولى ابن عمر مثل موسى بن عقبة وأيوب بن موسى ومجاهد وآخرين رووه عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا وكذا قال مالك: قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - عليه السلام -.

                                                ثم بين ذلك بخمس طرق صحاح:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، شيخ مسلم أيضا، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                وأخرجه مالك في "موطإه" .

                                                الثاني: عن علي بن شيبة ، عن قبيصة بن عقبة ، عن سفيان الثوري ، عن موسى ابن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                [ ص: 223 ] وأخرجه النسائي : أنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا يحيى ابن آدم ، عن سفيان ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة".

                                                وأخرجه مسلم والدارقطني أيضا نحوه.

                                                الثالث: عن فهد بن سليمان وأحمد بن مسعود الخياط، كلاهما عن محمد بن كثير ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المكي روى له الجماعة، عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده" : نا أبو المغيرة، نا الأوزاعي ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين -والطائفة الأخرى مواجهة للعدو- ثم انصرفت الطائفة التي مع النبي - عليه السلام - وأقبلت الطائفة الأخرى فصلى بها رسول الله - عليه السلام - ركعة وسجدتين، ثم سلم النبي - عليه السلام -، ثم قام كل رجل من الطائفتين فركع لنفسه ركعة وسجدتين".

                                                وهذان الطريقان بيان قوله: "وهكذا روى عنه أصحابه الأكابر" أي أصحاب نافع كما ذكرنا، ثم أكد كلامه ذلك بما رواه أيضا غير نافع عن ابن عمر مرفوعا وهو قوله: "وقد رواه أيضا سالم عن أبيه مرفوعا" أي قد روى الحديث المذكور أيضا سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عبد الله بن عمر .

                                                [ ص: 224 ] وقد أخرج عنه من طريقين صحيحين:

                                                أحدهما: وهو الطريق الرابع مما ذكرنا، عن يزيد بن سنان ، عن أبي الربيع الزهراني -واسمه سليمان بن داود الأزدي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن فليح بن سليمان ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن سالم ، عن أبيه.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا عبد بن حميد، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي - عليه السلام - ركعة، ثم سلم النبي - عليه السلام - ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة".

                                                وحدثنيه أبو الربيع الزهراني، قال: نا فليح ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه: "أنه كان يحدث عن صلاة رسول الله - عليه السلام - في الخوف ويقول: صليتها مع رسول الله - عليه السلام -" بهذا المعنى.

                                                والثاني: هو الطريق الخامس مما ذكرنا، عن فهد بن سليمان عن أبي اليمان الحكم ابن نافع شيخ البخاري ، عن شعيب بن أبي حمزة دينار أبي بشر الحمصي روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عبد الله بن عمر .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب عن الزهري قال: "سألته: هل صلى النبي - عليه السلام - يعني صلاة الخوف؟ قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال: غزوت مع رسول الله - عليه السلام - قبل نجد فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله - عليه السلام - يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله - عليه السلام - بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله - عليه السلام - بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين".

                                                [ ص: 225 ] وأخرجه أبو داود : عن مسدد ، عن يزيد بن زريع ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم .

                                                وأخرجه الترمذي : عن محمد بن عبد الملك ، عن يزيد بن زريع ... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي : عن إسماعيل بن مسعود ، عن يزيد بن زريع ... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "غزوته" بالنصب على المصدرية.

                                                قوله: "قبل نجد" بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي جهة نجد، وهي من بلاد العرب، وهو خلاف الغور، والغور هو تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. قال الجوهري: وهو مذكر. وأنشد ثعلب:


                                                ذراني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا



                                                قوله: "فوازينا" من الموازاة وهي المقابلة، وأصله من آزى، يقال: آزيته إذا حاذيته، قال الجوهري: ولا تقل: وازيته. والذي في الحديث يرده.

                                                قال ابن الأثير: الإزاء: المحاذاة والمقابلة، ومنه حديث صلاة الخوف: "فوازينا العدو" أي قابلناهم، وأنكر الجوهري أن يقال: وازينا.

                                                ثم اعلم أن أبا حنيفة ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير الطبري وبعض أصحاب الشافعي احتجوا بهذه الأحاديث على أن صلاة الخوف تصلى بأن يجعل الإمام الناس طائفتين، طائفة بإزاء العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة فيصلي بهم ركعة إن كان مسافرا أو كانت الصلاة صلاة الفجر وركعتين إن كان مقيما والصلاة من ذوات الأربع، وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية

                                                [ ص: 226 ] فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، وتعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة، ورويت هذه الصورة عن سفيان الثوري أيضا.

                                                وقال أبو بكر الجصاص -رحمه الله-: أشد الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد; وذلك لأنه تعالى قال: وليأخذوا أسلحتهم وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو، وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو; لأنها تحرس هذه المصلية، وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام; لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي - عليه السلام -، بل يكونون جميعا معه وذلك خلاف الآية، ثم قال: وقولنا موافق السنة الثابتة من النبي - عليه السلام - والأصول; وذلك لأن النبي - عليه السلام - قال : "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، وقال : "إني امرؤ قد بدنت، فلا تبادروني بالركوع ولا السجود".

                                                ومن مذهب المخالف: أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام، وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز الخروج منها قبله، وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يكون للخارجين من صلاته قبل فراغه إن سجدوا، ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فتحصل، مخالفة الإمام في النفل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الاقتداء والائتمام، ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم، وهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول.

                                                [ ص: 227 ] فإن قيل: جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصا بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها.

                                                قيل له: المشي له نظير في الأصول، وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق، وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة فينصرف ويتوضأ ويبني، وقد وردت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - أن النبي - عليه السلام - قال: "من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته"، والرجل يركع ويمشي إلى الصف ولا تبطل صلاته، وركع أبو بكر - رضي الله عنه - حتى دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي - عليه السلام - قال له: "زادك الله حرصا ولا تعد" ولم يأمره باستئناف الصلاة، فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول، وليس في الخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير فلم يجز فعله.

                                                وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي، ولما قامت به الدلالة سلمناه لهما، وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول وحتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها.




                                                الخدمات العلمية