الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  وقوله عز وجل : ما كان لنبي أن تكون له أسرى ، الآية

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وتمام الآية : حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم تفسيرها وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال : وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه : فآتهم ، قال : نعم ، فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسله ، فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا ، قالوا : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا فخذه ، فأخذه عمر رضي الله تعالى عنه ، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم ، فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

                                                                                                                                                                                  واختلف العلماء في هذا الباب ، منهم من قال : لا يحل قتل أسير صبرا ، وإنما يمن عليه أو يفدى ، وقالوا : إن قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين منسوخ بقوله : فإما منا بعد وإما فداء وهو قول جماعة من التابعين ، وقد ذكرناهم عن قريب ، ومنهم من قال لا يجوز في الأسرى من المشركين إلا القتل ، وجعلوا قوله عز وجل : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ناسخا لقوله : فإما منا بعد وإما فداء [ ص: 266 ] وهو قول مجاهد ، وقال غيرهم : إن الآيتين جميعا محكمتان ، وهو قول ابن زيد ، وهو قول صحيح بين ; لأن إحداهما لا تنفي الأخرى ، ينظر الإمام في ذلك مما يراه مصلحة ، إما القتل وإما الفداء أو المن ، وكذا قال أبو عبيد بن سلام ، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور ، قال : وقد فعل هذا كله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه .

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي : اختلف قول أبي حنيفة في هذا ، فروي عنه أن الأسرى لا تفادى ولا يردون حربا ; لأن في ذلك قوة لأهل الحرب ، وإنما يفادون بالمال وما سواه مما لا قوة لهم فيه ، وروي عنه أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، ورأى أبو حنيفة أن المن منسوخ ، وقيل : كان خاصا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو عبيد : والقول في ذلك عندنا أن الآيات جميعا محكمات لا منسوخ فيهن ، وذلك أنه عمل بالآيات كلها من القتل والأسر والفداء حتى توفاه الله تعالى على ذلك ، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر فعمل بها كلها يومئذ ، بدأ بالقتل فقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث في قفوله ، ثم قدم المدينة فحكم في سائرهم بالفداء ، ثم حكم يوم بني قريظة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقتل المقاتلة وسبى الذرية ، فنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضاه ، ثم كانت غزاة بني المصطلق رهط جويرية بنت الحارث ، فاستحياهم جميعا وأعتقهم ، ثم كان فتح مكة فأمر بقتل ابن خطل والقينتين وأطلق الباقين ، ثم كانت حنين فسبى هوازن ومن عليهم ، وقتل أبا غرة الجمحي يوم أحد وقد كان من عليه يوم بدر ، وأطلق ثمامة بن أثال ، فهذه كانت أحكامه عليه الصلاة والسلام بالمن والفداء والقتل ، فليس شيء منها منسوخا ، والأمر فيهم إلى الإمام ، وهو مخير بين القتل والمن والفداء ، يفعل الأفضل في ذلك للإسلام وأهله ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور انتهى .

                                                                                                                                                                                  وقال أصحابنا : لا يجوز مفاداة أسرى المشركين ، قال الله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية ، وقوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وما ورد في أسرى بدر كله منسوخ ، ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية