الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الوجه الرابع والعشرون من وجوه إعجازه (تشبيهه واستعاراته وهو من أشرف أنواع البلاغة وأعلاها) قال المبرد في الكامل: لو قال قائل هو أكثر كلام العرب لم يبعد. وقد أفرد تشبيهات القرآن بالتصنيف أبو القاسم بن البندار البغدادي في كتاب سماه " الجمان ". وعرفه جماعة منهم السكاكي بأنه الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى. [ ص: 203 ] وقال ابن أبي الإصبع: هو إخراج الأغمض إلى الأظهر. وقال غيره: هو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه. وقال بعضهم: هو أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به. والغرض منه تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي، وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانا. وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار. وأدواته حروف وأسماء وأفعال: فالحروف: الكاف، نحو: كرماد . وكأن، نحو: كأنه رءوس الشياطين . والأسماء: مثل، وشبه، ونحوهما مما يشتق من المماثلة والمشابهة. قال الطيبي: ولا تستعمل مثل إلا في حال أو صفة لها شأن وفيها غرابة، نحو: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر . والأفعال نحو: يحسبه الظمآن ماء . يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . قال في التلخيص - تبعا للسكاكي: وربما يذكر فعل ينبئ عن التشبيه فيؤتى بالتشبيه القريب، بنحو: علمت زيدا أسدا الدال على التحقيق. وفي البعد بنحو: حسبت زيدا أسدا لدال على الظن وعدم التحقيق. وخالفه جماعة منهم الطيبي فقالوا في كون هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه نوع خفاء. والأظهر أن الفعل ينبئ عن حال التشبيه في القرب والبعد، وأن الأداة محذوفة مقدرة لعدم استقامة المعنى بدونه.

[ ص: 204 ] ذكر أقسامه ينقسم التشبيه باعتبارات: الأول: باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما إما حسيان، أو عقليان، أو المشبه به حسي والمشبه عقلي، أو عكسه. مثال الأول: والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، كأنهم أعجاز نخل منقعر . ومثال الثاني: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة . وكذا مثل به في البرهان، وكأنه ظن أن التشبيه واقع في القسوة وهو غير ظاهر، بل هو واقع بين القلوب والحجارة، فهو من الأول. ومثال الثالث: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . ومثال الرابع: لم يقع في القرآن، بل منعه الإمام أصلا، لأن العقل مستفاد من الحس، فالمحسوس أصل للمعقول، وتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع أصلا، وهو غير جائز. وقد اختلف في قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . الثاني: ينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب، والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله: كمثل الحمار يحمل أسفارا ، فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه. وقوله: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ... إلى قوله: كأن لم تغن بالأمس ، فإن فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس [ ص: 205 ] بها - بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه الأرض، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها. وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس. وقال بعضهم: وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران: أحدهما: أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تغررت، وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به، فكذلك الدنيا. والثاني: أن الماء إذا أطبقت عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا. وقوله: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . شبه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة إما بوضعه في مشكاة - وهي الطاقة التي لا تنفذ، وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للبصر. وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها، ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا، لأنه من زيت شجرة في وسط السراج، لا شرقية ولا غربية، فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل تصيبها الشمس أعدل إصابة. وهذا مثل ضربه الله للمؤمن، ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، والآخر: كظلمات في بحر لجي . وهو أيضا تشبيه مركب. الثالث: ينقسم باعتبار آخر إلى أقسام: أحدها: تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع، اعتمادا على معرفة النقيض والضد، فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة، كقوله: طلعها كأنه رءوس الشياطين . شبه بما لا يشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا. [ ص: 206 ] الثاني: عكسه، وهو تشبيه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه، كقوله: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة . أخرج ما لا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس وهو السراب. والمعنى الجامع بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة. الثالث: إخراج ما لا تجري العادة به إلى ما جرت، كقوله تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة . والجامع بينهما الارتفاع في الصورة. الرابع: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها، كقوله: وجنة عرضها كعرض السماء والأرض . والجامع فيهما العظم، وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة. الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، كقوله تعالى: وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام . والجامع فيهما العظم، ولفائدته إبانة القدرة على تسخير الأجسام العظام في ألطف ما يكون من الماء، وما في ذلك من انتفاع الخلق بحمل الأثقال وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة، وما يلازم ذلك من تسخير الرياح للإنسان، فتضمن ذلك نبأ عظيما من الفخر وتعداد النعم، وعلى هذه الأوجه الخمسة تجرى تشبيهات القرآن. الرابع: ينقسم باعتبار آخر إلى مؤكد، وهو ما حذفت فيه الأداة، نحو: وهي تمر مر السحاب ، أي مثل مر السحاب. وأزواجه أمهاتهم . وجنة عرضها السماوات والأرض . ومرسل، وهو ما لم يحذف، كالآيات السابقة. والمحذوف الأداة أبلغ، لأنه نزل فيه الثاني منزلة الأول تجوزا.

[ ص: 207 ] قاعدة الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به، وقد تدخل على المشبه، إما لقصد المبالغة فيقلب التشبيه ويجعل المشبه هو الأصل، نحو: قالوا إنما البيع مثل الربا ، كان الأصل أن يقولوا إنما الربا مثل البيع، لأن الكلام في الربا لا في البيع، فعدلوا عن ذلك وجعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز، وأنه الخليق بالحل. ومنه قوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق ، فإن الظاهر العكس، لأن الخطاب لعبدة الأوثان الذين سموها آلهة تشبيها بالله سبحانه، فجعلوا غير الخالق مثل الخالق، فخولف في خطابهم، لأنهم بالغوا في عبادتهم، وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة، فجاء الرد على وفق ذلك. وإما لوضوح الحال، نحو: وليس الذكر كالأنثى . فإن الأصل: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن الأصل، لأن المعنى: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت. وقيل: لمراعاة الفواصل، لأن قبله: إني وضعتها أنثى. وقد تدخل على غيرها اعتمادا على فهم المخاطب، نحو: كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله . المراد كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا. قاعدة أخرى القاعدة في الذم تشبيه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى. وفي المدح تشبيه الأدنى بالأعلى، لأن الأعلى ظاهر عليه، فيقال في المدح: حصى كالياقوت. وفي الذم: ياقوت كالزجاج، وكذا في السلب. ومنه، يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ، أي في النزول لا في العلو. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين [ ص: 208 ] كالفجار . أي: في سوء الحال، أي لا نجعلهم كذلك. نعم أورد على ذلك: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . شبه فيه الأعلى بالأدنى لا في مقام السلب. وأجيب بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين، إذ الأعلى من نوره مشبه به.

فائدة قال ابن أبي الإصبع: لم يقع في القرآن تشبيه شيئين بشيئين ولا أكثر من ذلك، وإنما وقع فيه تشبيه واحد بواحد. زوج المجاز بالتشبيه فتولد بينهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة. ويقال في تعريفها: اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي. والأصح أنها مجاز لغوي، لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم منهما، فـ "أسد" في قوله: رأيت أسدا يرمى - موضوع للأسد لا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما، كالحيوان الجريء مثلا، ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما. وقيل مجاز عقلي، بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوي، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، فكأن استعمالها فيما وضعت له فتكون حقيقة لغوية، ليس فيها غير نقل الاسم وحده. وليس نقل الاسم المجرد استعارة، لأنه لا بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، فلم يبق إلا أن يكون مجازا عقليا. وقال بعضهم: حقيقة الاستعارة أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو حصول المبالغة، أو المجموع، مثال إظهار الخفي: وإنه في أم الكتاب . [ ص: 209 ] فإن حقيقته: وإنه في أصل الكتاب، فاستعير لفظ الأم للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان. ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليا: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة، فاستعير للذل أولا جانب ثم للجانب جناحا. وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لها جناح الذل، أي اخفض جانبك ذلا. وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئيا لأجل حسن البيان. ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقي الولد من الذل لها والاستكانة ممكنا احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن من مال جانبه إلى جانب السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه. والمراد خفض يلصق الجنب بالأصل ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر. ومثال المبالغة: وفجرنا الأرض عيونا . وحقيقته: وفجرنا عيون الأرض، ولو عبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيونا.

فرع أركان الاستعارة ثلاثة: مستعار، وهو اللفظ المشبه به. ومستعار منه، وهو اللفظ المشبه. ومستعار له، وهو المعنى الجامع. وأقسامها كثيرة باعتبارات، فتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام: أحدها: استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، نحو: واشتعل الرأس شيبا ، فالمستعار منه هو النار، والمستعار له الشيب، والوجه هو [ ص: 210 ] الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيب، وكل ذلك محسوس. وهو أبلغ مما لو قيل: اشتعل شيب الرأس، لإفادته عموم الشيب لجميع الرأس. ومثله: وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض . أصل الموج حركة الماء، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة. والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه من الكثرة. والصبح إذا تنفس ، استعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا، بجامع التتابع على طريق التدريج. وكل ذلك محسوس. الثاني: استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي، قال ابن أبي الإصبع: وهي ألطف من الأولى، نحو: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار . فالمستعار منه السلخ الذي هو كشط الجلد عن الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وحصوله عقب حصوله، كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل. والترتب أمر عقلي. ومثله: فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . أصل الحصيد النبات، والجامع الهلاك، وهو أمر عقلي. الثالث: استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي. قال ابن أبي الإصبع: وهي ألطف الاستعارات، نحو: من بعثنا من مرقدنا . المستعار منه الرقاد، أي النوم، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل، والكل عقلي. ومثله: ولما سكت عن موسى الغضب . والمستعار السكوت، والمستعار منه الساكت، والمستعار له الغضب. الرابع: استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي أيضا، نحو: مستهم البأساء والضراء . استعير المس، وهو حقيقة في الأجسام، وهو محسوس، لمقاساة الشدة، والجامع اللحوق، وها عقليان. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه . فالقذف والدمغ مستعاران، وها محسوسان. [ ص: 211 ] والحق والباطل مستعار لهما، وهما معقولان. ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس . استعير الحبل المحسوس للعهد وهو معقول. فاصدع بما تؤمر . استعير الصدع، وهو كسر الزجاجة، وهو محسوس، للتبليغ وهو معقول. والجامع التأثير وهو أبلغ من بلغ، وإن كان بمعناه، لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا" يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزما. واخفض لهما جناح الذل . قال الراغب: لما كان الذل على ضربين: ضرب يضع الإنسان، وضرب يرفعه، وقصد في هذا المكان إلى ما يرفع استعير لفظ الجناح، فكأنه قيل استعمل الذل الذي يرفعك عند الله. وكذا قوله: الذين يخوضون في آياتنا . فنبذوه وراء ظهورهم . أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه . ويبغونها عوجا . لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . فجعلناه هباء منثورا . في كل واد يهيمون . ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك . كلها من استعارة المحسوس للمعقول. والجامع عقلي. الخامس: استعارة معقول لمحسوس، والجامع عقلي أيضا، نحو: إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية . المستعار منه التكبر وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء وهو حسي، والجامع الاستعلاء وهو عقلي أيضا. ومنه: تكاد تميز من الغيظ . وجعلنا آية النهار مبصرة . وتنقسم باعتبار اللفظ إلى: أصلية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس كآية: بحبل الله. من الظلمات إلى النور. في كل واد. وتبعية، وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس، كالفعل والمشتقات، كسائر [ ص: 212 ] الآيات السابقة، وكالحروف، نحو: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب غلبة الغائية عليه، ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به. وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحة، ومجردة، ومطلقة: فالأولى: وهي أبلغها - أن تقترن بما يلائم المستعار منه، نحو: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم . استعير الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قرن بما يلائمه من الربح والتجارة. والثانية: أن تقترن بما يلائم المستعار له، نحو: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف . استعير اللباس للجوع، ثم قرن بما يلائم المستعار له من الإذاقة، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، لكن التجريد أبلغ لما في لفظ الإذاقة من المبالغة في الألم باطنا. والثالثة: ألا تقترن بواحد منهما. وتنقسم باعتبار آخر إلى: تحقيقية، وتخييلية، ومكنية، وتصريحية: فالأولى: ما تحقق معناها حسا، نحو: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف . أو عقلا، نحو: وأنزلنا إليكم نورا . أي بيانا واضحا وحجة دامغة. اهدنا الصراط المستقيم . أي الدين الحق، فإن كلا منهما متحقق عقلا. والثانية: أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، ويسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية ومكنيا عنها، لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه. ويقابله التصريحية. ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه [ ص: 213 ] استعارة تخييلية، لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه وقوامه في وجه الشبه، لتخيل أن المشبه من جنس المشبه به. ومن أمثلة ذلك: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه . شبه العهد بالحبل، وأضمر في النفس، فلم يصرح بشيء من أركان التشبيه سوى العهد المشبه، ودل عليه بإثبات النقيض الذي هو من خواص المشبه به، وهو الحبل. وكذا واشتعل الرأس شيبا . طوى ذكر المشبه به وهو النار، ودل عليه بلازمه وهو الاشتعال. فأذاقها الله . شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر فأوقع عليه الإذاقة. ختم الله على قلوبهم . شبهها في ألا تقبل الحق بالشيء الموثوق المختوم، ثم أثبت لها الختم. جدارا يريد أن ينقض . شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي، فأثبت له الإرادة التي هي من خواص العقلاء. ومن التصريحية آية: مستهم البأساء والضراء . من بعثنا من مرقدنا . وتنقسم باعتبار آخر إلى وفاقية، بأن يكون اجتماعهما في شيء ممكنا، نحو: أومن كان ميتا فأحييناه ، أي ضالا فهديناه. استعير الإحياء من جعل الشيء حيا - للهداية التي هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء. وعنادية، وهي ما لا يمكن اجتماعهما في شيء، كاستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم نفعه، واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع. ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض، نحو: فبشرهم بعذاب أليم ، أي أنذرهم. استعيرت البشارة وهي في الإخبار بما يسر للإنذار الذي هو ضده بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء، ونحو: إنك لأنت الحليم الرشيد . عنوا الغوى السفيه تهكما. ذق إنك أنت العزيز الكريم . [ ص: 214 ] وتنقسم باعتبار آخر إلى: تمثيلية، وهي أن يكون وجه الشبه فيها منتزعا من متعدد، نحو: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته والنجاة من المكاره باستمساك الواقع في مهواة بحبل وثيق مدلى من مكان مرتفع يؤمن انقطاعه.

تنبيه قد تكون الاستعارة بلفظين، نحو: قواريرا قواريرا من فضة . يعني تلك الأواني ليست من الزجاج ولا من الفضة، بل وصفاء القارورة وبياض الفضة. فصب عليهم ربك سوط عذاب . فالصب كناية عن الدوام، والسوط عن الإيلام، فالمعنى عذبهم عذابا دائما مؤلما.

فائدة أنكر قوم الاستعارة بناء على إنكارهم المجاز، وقوم إطلاقها في القرآن، لأن فيها إيهاما للحاجة، ولأنه لم يرد في ذلك إذن من الشرع، وعليه القاضي عبد الوهاب المالكي. وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها، وإن امتنعوا امتنعنا، ويكون هذا من قبيل أن الله عالم، والعلم هو العقل، ثم لا نصفه به لعدم التوقيف. انتهى.

فائدة ثانية تقدم أن التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها. واتفق البلغاء على أن الاستعارة أبلغ منه، لأنها مجاز وهو حقيقة، والمجاز أبلغ، فإذا الاستعارة أعلى مراتب الفصاحة، وكذا الكناية أبلغ من التصريح. والاستعارة أبلغ من الكناية كما قال في عروس الأفراح: إنه الظاهر، لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة، ولأنها مجاز قطعا. وفي الكناية خلاف. وأبلغ أنواع الاستعارة التمثيلية، كما يؤخذ من الكشاف، ويليها المكنية، [ ص: 215 ] صرح به الطيبي لاشتمالها على المجاز العقلي. والترشيحية أبلغ من المجردة والمطلقة. والتخييلية أبلغ من التحقيقية. والمراد بالأبلغية إفادة زيادة التأكيد والمبالغة في كمال التشبيه، لا زيادة في المعنى لا توجد في غير ذلك.

خاتمة من المهم تحرير الفرق بين الاستعارة والتشبيه المحذوف الأداة، نحو: زيد أسد، قال الزمخشري في قوله تعالى: صم بكم عمي . فإن قلت: فهل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه. والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة، لأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون، وإنما تطلق الاستعارة حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد المنقول عنه والمنقول له لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام. ومن ثم ترى المفلقين المهرة يتناسون التشبيه، ويضربون عنه صفحا. وعلله السكاكي بأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر وتناسي التشبيه، و" زيد أسد" لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز أن يكون استعارة. وتابعه صاحب الإيضاح. وقال في عروس الأفراح: وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر. قال: بل لو عكس ذلك، وقال: لا بد من صلاحيته لكان أقرب، لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، فإن لم تكن له قرينة امتنع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة: إما لفظية أو معنوية، نحو: زيد أسد. فالإخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقته. قال: والذي نختاره في نحو " زيد أسد " أنه قسمان: تارة يقصد به التشبيه. فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة فلا تكون مقدرة، ويكون الأسد مستعملا في حقيقته، وذكر " زيد " والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة [ ص: 216 ] قرينة - صارفة إلى الاستعارة دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه، وإن لم تكن فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار إليها. وممن صرح بهذا الفرق عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة، وكذا قال حازم: الفرق بينهما أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك، لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية