الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) وقول الله عز وجل: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى إلى قوله: ويحب المتطهرين [ ص: 167 ] خرج مسلم في "صحيحه " من حديث حماد بن سلمة : نا ثابت، عن أنس ، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح " - وذكر بقية الحديث . فقوله عز وجل: ويسألونك عن المحيض أي: عن حكمه والمباشرة فيه .

                                                                                                                                                                                              و"المحيض "، قيل: إنه مصدر كالحيض، وقيل: بل هو اسم للحيض . فيكون اسم مصدر .

                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى: قل هو أذى فسر الأذى بالدم النجس وبما فيه من القذر والنتن وخروجه من مخرج البول، وكل ذلك يؤذي .

                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : الأذى هو المكروه الذي ليس بشديد جدا، كقوله: لن يضروكم إلا أذى وقوله: إن كان بكم أذى من مطر قال: والمراد: أذى يعتزل منها موضعه لا غيره، ولا يتعدى ذلك إلى سائر بدنها، فلا يجتنبن ولا يخرجن من البيوت كفعل المجوس وبعض أهل الكتاب، فالمراد: أن الأذى بهن لا يبلغ الحد الذي يجاوزونه إليه، وإنما يجتنب منهن موضع الأذى، فإذا تطهرن حل غشيانهن .

                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض قد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتزال النكاح . وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ذكر ما يحرم من [ ص: 168 ] مباشرة الحائض وما يحل منه في الباب الذي يختص المباشرة من الكتاب .

                                                                                                                                                                                              وقد قيل: بأن المراد بالمحيض ها هنا: مكان الحيض، وهو الفرج، ونص على ذلك الإمام أحمد ، وحكاه الماوردي عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمهور المفسرين، وحكى الإجماع على أن المراد بالمحيض المذكور في أول الآية: الدم . وقد خالف في ذلك ابن أبي موسى من أصحابنا في "شرح الخرقي " . فزعم أن مذهب أحمد أنه الفرج - أيضا -، وفيه بعد .

                                                                                                                                                                                              وجمهور أصحاب الشافعي على أن المراد بالمحيض في الآية الدم، في الموضعين . وقوله: ولا تقربوهن نهي بعد الأمر باعتزالهن في المحيض عن قربانهن فيه، والمراد به: الجماع - أيضا -، وفيه تأكيد لتحريم الوطء في الحيض . وقوله: حتى يطهرن فيه قراءتان: "يطهرن " - بسكون الطاء وضم الهاء -، و"يطهرن " - بفتح الطاء وتشديدها وتشديد الهاء . وقد قيل: إن القراءة الأولى أريد بها انقطاع الدم، والقراءة الثانية أريد بها التطهر بالماء . وممن فسر الأولى بانقطاع الدم ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وابن جرير وغيره: يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذلك . ومنع غيره الإجماع، وقال: كل من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم، وزوال أذاه . [ ص: 169 ] وفي ذلك نظر، فإن قراءة التشديد تدل على نسبة فعل التطهر إليها . فكيف يراد بذلك مجرد انقطاع الدم ولا صنع لها فيه . وقوله: حتى يطهرن غاية النهي عن قربانهن، فيدل بمفهومه على أن ما بعد التطهير يزول النهي . فعلى قراءة التشديد المفسرة بالاغتسال إنما يزول النهي بالتطهر بالماء . وعلى قراءة التخفيف يدل على زوال النهي بمجرد انقطاع الدم . واستدل بذلك فرقة قليلة على إباحة الوطء بمجرد انقطاع الدم، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه، إذا انقطع الدم لأكثر الحيض، أو لدونه، ومضى عليها وقت صلاة، أو كانت غير مخاطبة بالصلاة كالذمية . وحكي عن طائفة إطلاق الإباحة، منهم: ابن بكير وابن عبد الحكم . وفي نقله عنهما نظر . والجمهور على أنه لا يباح بدون الاغتسال، وقالوا: الآية وإن دلت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلا أن الإتيان مشروط له شرط آخر وهو التطهر، والمراد به: التطهر بالماء، بقوله: فإذا تطهرن فأتوهن فدل على أنه لا يكفي مجرد التطهر، وأن الإتيان متوقف على التطهر، أو على الطهر والتطهر بعده، وفسر الجمهور التطهر بالاغتسال، كما في قوله: وإن كنتم جنبا فاطهروا وحكي عن طائفة من السلف: أن الوضوء كاف بعد انقطاع الدم، منهم: مجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، على اختلاف عنهم في ذلك . قال ابن المنذر : روينا بإسناد فيه مقال عن عطاء وطاوس ومجاهد ، أنهم [ ص: 170 ] قالوا: إذا أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ، ثم أصاب منها وأصح من ذلك عن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول - وكراهته بدون الغسل -، قال: ولا يثبت عن طاوس خلاف ذلك ، قال وإذا بطل أن يثبت عن هؤلاء قول ثان كان القول الأول كالإجماع، انتهى .

                                                                                                                                                                                              ولذلك ضعف القاضي إسماعيل المالكي الرواية بذلك عن طاووس وعطاء لأنها من رواية ليث بن أبي سليم عنهما، وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                              وحكي عن بعض السلف أن التطهر غسل الفرج خاصة، رواه ابن جريج وليث عن عطاء ، ورواه معمر عن قتادة ، وحكاه بعض أصحابنا عن الأوزاعي ، ولا أظنه يصح عنه، وقاله قوم من أهل الظاهر . والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن تطهر الحائض كتطهر الجنب . وهو الاغتسال .

                                                                                                                                                                                              ولو عدمت الماء، فهل يباح وطؤها بالتيمم; أحدهما: يباح بالتيمم، وهو مذهبنا، ومذهب الشافعي وإسحاق والجمهور، وقول يحيى بن بكير من المالكية، والقاضي إسماعيل منهم أيضا .

                                                                                                                                                                                              وقال مكحول ومالك : لا يباح وطؤها بدون الاغتسال بالماء . وقوله: فأتوهن إباحة، وقوله: من حيث أمركم الله أي: باعتزالهن، وهو الفرج، أو ما بين السرة والركبة، على ما فيه من الاختلاف كما سيأتي . روي هذا عن ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة . وقيل: المراد: من الفرج دون الدبر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . [ ص: 171 ] وروى أبان بن صالح، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال: من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن . ورواه عكرمة ، عن ابن عباس - أيضا . وقيل: المراد من قبل التطهر لا من قبل الحيض، وروي عن ابن عباس - أيضا -، وغيره . و"التوابون ": الرجاعون إلى طاعة الله من مخالفته . و"المتطهرون ": فسره عطاء وغيره: بالتطهر بالماء، ومجاهد وغيره: بالتطهر من الذنوب . وعن مجاهد ، أنه فسره: بالتطهر من أدبار النساء . ويشهد له قول قوم لوط: إنهم أناس يتطهرون

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              والاعتزال الذي أمر الله به: هو اجتناب جماعهن، كما فسره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عكرمة : كان أهل الجاهلية يصنعون في الحيض نحوا من صنيع المجوس، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى الآية، فلم يزد الأمر فيهن إلا شدة، فنزلت: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله أن تعتزلوا . أخرجه القاضي إسماعيل، بإسناد صحيح . وهو يدل على أن أول ما نزل الأمر باعتزالهن فهم كثير من الناس منه [ ص: 172 ] الاعتزال في البيوت والفرش كما كانوا يصنعون أولا، حتى نزل آخر الآية: فأتوهن من حيث أمركم الله ففهم من ذلك أن الله أمر باعتزالهن في الوطء خاصة . وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "اصنعوا كل شيء غير النكاح "، وبفعله مع أزواجه; حيث كان يباشرهن في المحيض .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية