الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما حرم سبحانه قوله : راعنا بعد حله ، وكان ذلك من باب النسخ وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس ، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين ، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله ، قالوا : لأنه يلزم منه البدا -أي : بفتح الموحدة مقصورا- وهو أن يبدو الشيء ، أي : يظهر بعد أن لم يكن ، وذلك لا يجوز على الله تعالى ، هذا مع أن النسخ في كتابهم الذي بين أظهرهم ، فإن فيه أنه تعالى أمرهم بالدخول إلى بيت المقدس بعد مقاتلة الجبارين ، فلما أبوا حرم عليهم دخولها ومنعهم منه ومن القتال بالقدرة والأمر ، كما ستراه عن نص التوراة في سورة المائدة إن شاء الله [ ص: 91 ] تعالى ، وأمرهم بالجمعة فاختلفوا فيه ، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي في قوله تعالى : إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه واختاروا السبت ، ففرض عليهم وشدد عليهم فيه وأحل لهم جميع اللحوم والشحوم ، فلما اتخذوا العجل حرم عليهم الشحوم ; وأعظم من ذلك تعاطيهم من النسخ ما لم يأذن به الله في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وتحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم لهم ما شاؤوا من الأحكام التي تقدم عد جملة منها أصولا وفروعا ، كما قال تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ولما قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم : "يا رسول الله ! إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، قال : أليسوا يحلون لهم ويحرمون ؟ قال : بلى ، قال : فتلك عبادتهم لهم" ، كما هو مبين في السيرة في وفادة عدي ; وكما فعلوا في إبدال الرجم في الزنا بالتحميم والجلد ; وفي اتباع ما تتلو الشياطين مع أن فيه إبطال كثير من شرعهم ; وفي نبذ فريق منهم كتاب الله ; وفي قولهم : سمعنا وعصينا وفي اتخاذهم العجل مع النهي عن ذلك -وكل ما شاكله في كثير من فصول التوراة- وفيما أشير إليه بقوله : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض إلى غير ذلك ، لما كان ذلك قال تعالى جوابا عن طعنهم [ ص: 92 ] سابقا له في مظهر العظمة معلما أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهورا فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضا على المنعم يكون سببا لإلباس المحسود ثوب الحاسد : ما ننسخ ، والنسخ قال الحرالي : نقل باد من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه ، أو باقتباس يغني عن غيبته وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب ; والمعاقبة في هذا أظهر ، انتهى . وساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة ، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت ، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث [ ص: 93 ] من الأسباب ، من آية أي : فنرفع حكمها ، أو تلاوتها بعد إنزالها ، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ [على ] قراءة ابن عامر ، سواء كانت في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس أو لم تكن ; وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلا ولا خيرا ، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحا بجديد أو اغتباطا بما هو خير من المنسوخ ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدته ، قاله الحرالي . "أو ننسأها" أي : نؤخرها ، أي : نترك إنزالها عليكم أصلا ، وكذا معنى أو ننسها من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو ، أي : نأمر بترك إنزالها [ ص: 94 ] نأت بخير منها أو مثلها كما فعلنا في : راعنا وغيرها ، أو يكون المعنى : ما ننسخ من آية فنزيل حكمها أو لفظها عاجلا كما فعلنا في راعنا "أو ننسأها" بأن نؤخر نسخها أو نتركه على قراءة "ننسها" زمنا ثم ننسخها كالقبلة نأت عند نسخها بخير منها أو مثلها وقال الحرالي : وهو الحق إن شاء الله تعالى . والنسء : تأخير عن وقت إلى وقت ، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر ، وهو نمط من الخطاب علي خفي المنحى ، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء إلا للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة ، ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخا ، وإنما كان إنساء وتأخيرا لحكم [ ص: 95 ] الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافة التي كانت دفت عليهم من البوادي ، فلم يلقن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى فسره فقال : "إنما نهيتكم من أجل الدافة" ، ففي متسع فقهه أن أحكاما تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنسأ متراجعة ، ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسأ ، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى ما ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنسأ الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما ; فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان ، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وحاصله تأخير الحل كما ذكر أو الحرمة كما في المتعة ونحو ذلك إلى وقت آخر ، وذلك هو مدلول النسء على ما كانت العرب تتعارفه كما سيأتي تحريره في سورة براءة عند إنما النسيء زيادة في الكفر قال : وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله [ ص: 96 ] من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسأ كالسنن التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم عن تنسيته كما ورد من قوله : إني لأنسى لأسن . وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه : "بئسما لأحدكم أن يقول : نسيت ، بل هو نسي" ، ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته ، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير ; ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها [ ص: 97 ] بالوقت الزماني ، فصار لها وقتان : وقت نور عياني من مدارها مع الشمس ، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر ، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه ، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني ; فلله تعالى على [هذه ] الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجبارا مع إجماع العزم ، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات أنفسها ، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم ، انتهى . واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته ، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي : وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه ، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه [ ص: 98 ] أمر ; وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مرارا وكان ناسخا لفروع شريعتهم ولا سيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم ، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله ، فمنعوا من : لا يسأل عما يفعل مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفا ، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل ، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم ، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره ، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غدا ، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب ، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعد ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم ، وجوابهم عن ذلك معرضا عن خطابهم تعريضا بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله : ألم تعلم أن الله أي : الحائز لجميع أوصاف الكمال ، على كل شيء قدير على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد ، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة ، وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم ، ويقضي هذا الكون بشمول علمه بكل ما تقدم وما تأخر . [ ص: 99 ] ولو أراد لجعل الأمر على سنن واحد والناس على قلب رجل واحد ، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا لجعل الناس أمة واحدة ولكنه مالك الملك وملك السماوات والأرض يتصرف على حسب ما يريد ، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ، ولا يسوغ الاعتراض عليه بوجه ، وهل يجوز أن يعترض العبد الذي لا ينفك أصلا من الرق على السيد الثابت السؤدد على أنه لا يلزمه شيء أصلا فلا يلزمه الأمر على حسب المصالح ; ثم أتبع ذلك بما هو كالدليل على شمول القدرة فقال : ألم تعلم أن الله الجامع لأنواع العظمة ، له ملك السماوات والأرض يفعل في ذواتهما وأحوالهما ما يشاء . قال الحرالي : فهو بما هو على كل شيء قدير يفصل الآيات ، وهو بما له ملك السماوات والأرض يدبر الأمر ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أتم سبحانه ما أراد من إظهار قدرته وسعة ملكه وعظمته بالاسم العلم الذي هو [أعظم ] من مظهر [العظمة ] في ننسخ وننسأ بالإقبال على خطاب من لا يعلم ذلك حق علمه غيره فتهيأت قلوب السامعين وصغت لفت الخطاب إليهم ترهيبا في إشارة إلى ترغيب فقال : وما لكم [ ص: 100 ] من دون الله المتصف بجميع صفات العظمة ، من ولي يتولى أموركم ، وهو من الولاية ، قال الحرالي وهي القيام بالأمر عن وصلة واصلة ولا نصير فأقبلوا بجميع قلوبكم إليه ولا تلفتوها عنه ، وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا ولم يبلغوا درجة المؤمنين من مخالفة أمره إذا حكم عليهم بما أراد كائنا ما كان لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود نحوا مما لقنت ظواهر ألسنتهم ، بأن تستمسك بسابق فرقانها فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله ، فيكون ذلك تبعا لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام كتابها ، أفاده الحرالي وقال : وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما الآية ، وذلك لأن هذه السورة هي فسطاط القرآن [ ص: 101 ] الجامعة لجميع ما تفصل فيه ; وهي سنام القرآن ، وسنام الشيء أعلاه ; وهي سيدة سور القرآن ; ففيها لذلك جوامع ينتظم بعضها ببعض أثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها وسيادة خطابها نحوا من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها ليكون بين المحيط الجامع والابتداء الجامع مشاكلة ما ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية