الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا

الضمير في قوله تعالى: "أنزلناه" عائد على القرآن المذكور في قوله سبحانه: ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، ويجوز أن يكون الكلام آنفا، وأشار [ ص: 555 ] بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته، كما قال تعالى: حتى توارت بالحجاب ، وهذا كثير.

قال الزهراوي : معناه: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس بالحق في نفسه، وقوله سبحانه: وبالحق نزل يريد: بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره، فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي: بأخباره وأوامره، وبذلك نزل.

وقوله تعالى: "وقرآنا". مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد، أي: وفرقنا قرآنا، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في "أرسلناك" ، من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا لمعنى واحد.

وقرأ جمهور الناس: "فرقناه" بتخفيف الراء، ومعناه: بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا. وقرأ ابن عباس ، وقتادة ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود ، وأبي بن كعب، والشعبي ، والحسن بخلاف - وحميد، وعمرو بن فائد: "فرقناه" بتشديد الراء، إلا أن في قراءة ابن مسعود ، وأبي بن كعب : "فرقناه عليه لتقرأه"، أي: أنزلناه شيئا بعد شيء، لا جملة واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله تعالى: لتقرأه على الناس على مكث ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة.

واختلف أهل العلم، في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في ثلاث وعشرين، وقال قتادة : في عشرين.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي جاء وهو ابن أربعين سنة، وتم بموته. وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثماني عشرة سنة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قول مختل: لا يصح عن الحسن ، والله أعلم.

[ ص: 556 ] وتأول فرقة قوله تعالى: على مكث ، أي: على ترسل في التلاوة وترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد. والتأويل الآخر، أي: على مكث وتطاول في المدة شيئا بعد شيء. وقوله تعالى: ونزلناه تنزيلا مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأجمع القراء على ضم الميم من "مكث"، ويقال: "مكث" و"مكث" بضم الميم، ومكث بكسرها.

وقوله تعالى: قل آمنوا به الآية. هذه آية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى: إنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله، هم بالصفة المذكورة.

واختلف الناس في المراد بـ الذين أوتوا العلم من قبله -فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب. وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، ومن جرى مجراهما، وقيل: إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله وسجدوا له، وقالوا: هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد بـ الذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في "قبله" عائد على القرآن، حسب الضمير في "به"، ويبين ذلك قوله: إذا يتلى عليهم . وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: إذا يتلى عليهم .

وقوله تعالى: يخرون للأذقان ، أي: لناحيتها، وهذا كما تقول: ساقط لليد والفم، أي: لناحيتهما وعليهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى: للوجوه، وقال الحسن : للحى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والأذقان أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر:

[ ص: 557 ]

فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم ... سباع من الطير العوادي وتنتف



و"إن" في قوله تعالى: إن كان وعد ربنا هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة. واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية واللام بمعنى: إلا. ويتوجه في هذه الآية معنى آخر، وهو أن يكون قوله: قل آمنوا به أو لا تؤمنوا مخلصا للوعيد دون التحقير. والمعنى: فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل -على جهة التقريع- بمن تقدم من أهل الكتاب، أي: إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.

التالي السابق


الخدمات العلمية