الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            75-الأجوبة الزكية عن الألغاز السبكية

            بسم الله الرحمن الرحيم

            ورد على شيخنا الإمام العالم العلامة عبد الرحمن نجل الإمام كمال الدين أبي بكر السيوطي الشافعي ، عامله الله بلطفه ، ورحم سلفه الكريم في سادس شهر رمضان سنة ست وسبعين وثمانمائة -أوراق مكتوب فيها ما صورته : الحمد لله رب العالمين وبعد ، فقد وقف العبد كاتب هذه الأحرف فقير رحمة ربه ذي اللطف الخفي ، محمد بن علي بن سودون الحنفي على سؤال ، كتب قاضي القضاة شيخ الإسلام تاج الدين أبو نصر السبكي في ثاني عشر ذي القعدة الحرام سنة إحدى وستين وسبعمائة إلى الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الشاعر المشهور :


            للمشكلات إذا ما احتطن بالفكر والمعضلات إذا أظلمن في النظر     وكدرت صافي الأكدار عندك يا
            أبا الصفاء جلاء القلب والبصر     فما سؤالات من وافاك يسأل ما
            حرف هو الاسم فعلا غير معتبر     وأي شكل به البرهان منتهض
            ولا يعد من الأشكال والصور [ ص: 349 ]     وأي بيت على بحرين منتظم
            بيت من الشعر لا بيت من الشعر     وأي ميت من الأموات ما طلعت
            بموته روحه في ثابت الخبر     من عد من أمراء المؤمنين ولم
            يحكم على الناس من بدو ومن حضر     ولم يكن قرشيا حين عد ولا
            يجوز أن يتولى إمرة البشر     من باتفاق جميع الخلق أفضل من
            شيخ الصحاب أبي بكر ومن عمر     ومن علي ومن عثمان وهو فتى
            من أمة المصطفى المبعوث من مضر     من أبصرت في دمشق عينه صنما
            مصورا وهو منحوت من الحجر     إن جاع يأكل وإن يعطش تضلع من
            مياه غير زلال ثم منهمر     من قال إن الزنا والشرب مصلحة
            ولم يقل هو ذنب غير مغتفر     من قال إن نكاح الأم يقرب من
            تقوى الإله مقالا غير مبتكر     من قال سفك دماء المسلمين على ال
            صلاة أوجبه الرحمن في الزبر     وما اللفيفة جاءت والسخينة في
            غريب ما صح مما جاء في الأثر     وهات قل لي إبراهيم أربعة
            بعض عن البعض من هم تحظ بالظفر     وهكذا خلف من الرواة كذا
            محمد في المغازي جاء والسير     وعن فتاة لها زوجان ما برحا
            تزوجت ثالثا حلا بلا نكر     وآخر راح يشري طعم زوجته
            فعاد وهو على حال من الغير     قالت له أنت عبدي قد وهبتك من
            زوج تزوجته فاخدمه واعتبر     وخمسة من زناة الناس خامسهم
            ما ناله بالزنا شيء من الضر     والقتل والرجم والجلد الأليم كذا الت
            تغريب وزع في الباقين فاعتبر     أجب فأنت جزاك الله صالحة
            من لم يرع عند إشكال ولم يحر



            فكتب إليه أبياتا يمدحه فيها ، وذكر في أثنائها أنه يجيب عن ذلك نثرا ، ولم ير العبد له جوابا عن ذلك لا نظما ولا نثرا . والمسئول من صدقات سيدنا ومولانا أبقاه الله في خير ورحمة الجواب عن ذلك نظما ونثرا .

            فكتب شيخنا ما صورته : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .

            الجواب نثرا : أما الحرف الذي يكون أيضا اسما وفعلا فهو " على " ; فإنه يكون حرف جر واسما بمعنى فوق ، فيدخل عليه حرف الجر كقول الشاعر :

            غدت من عليه

            . وفعلا من [ ص: 350 ] العلو قال تعالى : ( إن فرعون علا في الأرض ) هكذا ذكر جماعة من العلماء أن " على " استكملت أقسام الكلمة ، ولم يذكروا غيرها ، وقد استدركت عليهم قديما لفظتين أيضا :

            الأولى : " من " فإنها تكون حرف جر وفعل أمر من مان يمين واسما ، قال الزمخشري في " الكشاف " في قوله تعالى : ( فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) إذا كانت " من " للتبعيض ، فهي في موضع المفعول به ، ورزقا مفعول من أجله ، ولكم مفعول به لرزقا ; لأنه حينئذ مصدر . قال الطيبي : وإذا قدرت " من " مفعولا كانت اسما ك " عن " في قوله : من عن يميني مرة وأمامي .

            الثانية : " في " فإنها تقع حرف جر ، واسما بمعنى الفم في حالة الجر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " حتى ما تجعل في في امرأتك " . وفعل أمر من الوفاء بإشباع ، وقوله : وأي شكل إلى آخره هذا أمر يتعلق بعلم المنطق ، وهو علم حرام خبيث لا أخوض فيه ، وقد سئل الشرف بن المقري بأسئلة نظم فيها :


            وما عكس السوالب يا مرجي     أي الجزئي منها في النظام



            فأجاب عن الأسئلة بيتا بيتا ، وقال في هذا البيت :


            وعن عكس السوالب لا تسلني     فذاك مقدم العلم الحرام



            قوله : وأي بيت على بحرين منتظم هذا نوع معروف من أنواع البديع يسمى التشريع ، أول من اخترعه الحريري ، وهو أن يكون البيت مبنيا على بحرين وقافيتين يصح الوقوف على كل منهما كقوله :


            يا طالب الدنيا الدنية إنها     شرك الردى وقرارة الأكدار
            دار متى ما أضحكت في يومها     أبكت غدا بعدا لها من دار



            فإنه يصح أن يقول :


            يا طالب الدنيا إنها شرك الردى     دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا



            قوله : " وأي ميت " إلى آخره الظاهر أنه أراد به ما في قوله تعالى : ( وكنتم أمواتا ) [ ص: 351 ] ( فأحياكم ) أي نطفا في الأصلاب ، فأطلق عليها الموت مع عدم وجود روح فيها خرجت منها .

            قوله : من عد من أمراء المؤمنين إلى آخره ، هو أسامة بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، أمره على جيش فيه أبو بكر وعمر ، فلم ينفذ حتى توفي صلى الله عليه وسلم ، فبعثه أبو بكر إلى الشام ، وكان الصحابة في ذلك السفر يدعونه أمير المؤمنين .

            وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا رأى أسامة بن زيد قال : السلام عليك أيها الأمير ، فيقول أسامة : غفر الله لك يا أمير المؤمنين ، تقول لي هذا ؟! فيقول : لا أزال أدعوك ما عشت الأمير ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت علي أمير ولم يكن أسامة من قريش بل من الموالي .

            قوله : من باتفاق إلى آخره ، " من " فيه استفهام نفي أو إنكار ، وكذا من قال : إن الزنا والبيتان بعده ، أي لم يقل ذلك أحد ، كذا رأيت صاحب النظم الشيخ تاج الدين السبكي فسره في بعض تعاليقه ، وجوز في قوله : من قال إن الزنا : من مبتدأ خبره غير مغتفر ، أي لا يغتفر له هذا القول ، بل يؤاخذ به .

            قوله : من أبصرت إلى آخره ، أراد بهذا ما رواه الحاكم في " تاريخ نيسابور " بسنده إلى عبد الله البوشنجي ، عن أبي عبد الله بن يزيد الدمشقي ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال : رأيت ببغداد صنما من نحاس ، إذا عطش نزل فشرب ، قال البوشنجي : ربما تكلمت العلماء على قدر فهم الحاضرين تأديبا وامتحانا ، فهذا الرجل ابن جابر أحد علماء الشام ، ومعنى كلامه أن الصنم لا يعطش ، ولو عطش نزل فشرب ، فنفى عنه النزول والعطش .

            قوله : وما اللفيف إلى آخره ، قال ابن الأثير في " النهاية " : قال معاوية للأحنف بن قيس وهو يمازحه : ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال : هو السخينة يا أمير المؤمنين ، قال ابن الأثير : الملفف في البجاد : وطب اللبن ، يلف فيه ليحمى ويدرك ، وكانت تميم تعير به ، والسخينة حساء يعمل من دقيق وسمن يؤكل في الجدب وكانت قريش تعير بها ، فلما مازحه معاوية بما يعاب به قومه مازحه الأحنف بمثله .

            قوله : وهات قل لي إلى آخره ، هذا نوع من أنواع علوم الحديث ، وهو من اتفق اسمه واسم شيخه فصاعدا والأربعة الذين رووا بعضهم عن بعض ، وكل منهم يسمى إبراهيم كثير ، منهم إبراهيم بن شماس السمرقندي ، عن إبراهيم بن محمد الفزاري الكوفي ، عن إبراهيم بن أدهم الزاهد ، عن إبراهيم بن ميمون الصائغ ، والأربعة الذين كل منهم اسمه خلف وقع ذلك في علوم الحديث للحاكم في إسناد واحد ، بل خمسة ، فقال : ثنا خلف ، ثنا خلف ، ثنا خلف ، ثنا خلف ، ثنا خلف ، الأول الأمير خلف بن أحمد السجزي ، والثاني أبو صالح خلف [ ص: 352 ] بن محمد البخاري ، والثالث خلف بن سليمان النسفي ، والرابع خلف بن محمد الواسطي ، والخامس خلف بن موسى بن خلف .

            وأما المحمدون في إسناد واحد ففي صحيح البخاري من ذلك شيء كثير ، وقد وقع لي حديث كل رواته يسمى محمدا من شيخنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قوله : وعن قتادة إلى آخره رأيت بخط صاحب النظم الشيخ تاج الدين في تذكرته ما صورته : امرأة لها زوجان ، ويجوز أن يتزوجها ثالث ، هذه امرأة لها عبد وأمة زوجت أحدهما بالآخر ، فصدق أنها امرأة لها زوجان ، وإذا جاء ثالث حر فله نكاحها .

            قوله : وآخر راح إلى آخره رأيت بخطه أيضا أن صورتها عبد زوجه مولاه بابنته ، ودخل بها ثم مات مولاه ووقعت الفرقة ; لأنها ملكت زوجها بالإرث ، وكانت حاملا فوضعت ، فانقضت العدة ، فتزوجت ووهبت ذلك العبد لزوجها .

            وقوله : وخمسة إلى آخره ، رأيت بخطه أيضا قيل : إن محمد بن الحسن سأل الشافعي عن خمسة زنوا بامرأة ، فوجب على واحد القتل ، وآخر الرجم ، والثالث الجلد ، والرابع نصفه ولم يجب على الخامس شيء ، فقال الشافعي : الأول ذمي زنى بمسلمة ، فانتقض عهده ، فيقتل . والثاني محصن ، والثالث بكر ، والرابع عبد ، والخامس مجنون ، انتهى .

            الجواب : ولم أقف على شيء من أجوبة هذه المسائل لغيري إلا هذه المواضع الثلاثة التي نقلتها عن الشيخ تاج الدين ، والموضع السابق في " من " وباقي المسائل مما أخذته بالفهم . وقلت في الجواب نظما :


            الحمد لله ربي بارئ البشر     ثم الصلاة على المختار من مضر
            هذا جواب سؤالات الإمام أبي     نصر عليه همت هطالة الدرر
            أما الذي هو حرف ثم جاء سمي     أيضا وفعلا مقالا غير ذي نكر
            على أتت حرف جر ثم فعل علا     واسما كفوق وزد من غير مقتصر
            ثم الذي هو شكل من علوم ردي     ولا يليق بأهل الشرع والأثر
            والبيت ينظم من بحرين ناظمه     فذاك تشريعهم ما فيه من حصر
            والميت من غير روح منه قد خرجت     ما كان في صلبه من نطفة البشر
            ثم المسمى أمير المؤمنين ولم     يحكم على الناس من بدو ولا حضر
            أسامة حين ولاه النبي على     سرية لقبوه ذاك في السفر
            و " من " في الأربعة الأبيات نافية     أي لم يقل ذاك شخص أي معتبر
            فصاحب النظم هذا القصد بين في     تعليق تذكرة يا طيب مدكر
            وبعضهم قال في الأصنام إن عطشت     تنزل كلا ذاك لا يلقى لمختبر
            [ ص: 353 ] ثم اللفيفة أكل والسخينة في     جدب بها عيب أهل البدو والحضر
            ثم المسمون إبراهيم أربعة     عن بعضهم قد رووا في صادق الخبر
            السمرقندي عن الكوفي عن العجلي     عن ابن ميمون فاحفظه ولا تحر
            وهكذا خلف خمس أتت نسقا     في مسند قد رواه الحاكم الأثري
            ومن محمد يدعى عدة نسقا     في جملة أسانيد من الأثر
            ومرأة ملكت زوجين لا ريب     فإن أرادت نكاحا غير محتظر
            والعبد زوجه مولاه بابنته     فمات تملكه بانت بلا ضرر
            ألقت جنينا فوفت عدة نكحت     فملكته له ضرب من القدر
            ثم الذين زنوا ذمي بمسلمة     فاقتل ومحصنهم فارجمه بالمدر
            والبكر فاحدد وعبدا نصفه أبدا     ومن خلا من صفات العاقلين ذر
            ثم الجواب ولا لبس يخالطه     فالحمد لله حمدا غير منحصر
            وقاله عابد الرحمن نجل أبي     بكر السيوطي يرجو عفو مقتدر



            التالي السابق


            الخدمات العلمية