الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المقام الثاني ، فنقول هذه الأخبار الصحيحة في هذا الباب يوافقها القرآن ، ويدل على مثل ما دلت عليه ، فهي مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية والحديث مع الحديث المتفقين ، وهما كما قال النجاشي في القرآن : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، ومعلوم أن مطابقة هذه الأخبار للقرآن وموافقتها له أعظم من مطابقة التوراة للقرآن .

فلما كانت الشهادة بأن هذه الأخبار والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة فنحن نشهد الله على ذلك شهادة على القطع والبت ، إذ شهد خصومنا شهادة الزور أنها تخالف العقل وما يضرها أن تخالف تلك العقول المنكوسة إذا وافقت الكتاب وفطرة الله التي فطر عباده عليها والعقول المؤيدة بنور الوحي وكذلك شهادة ورقة بن نوفل بموافقة القرآن لما جاء به موسى .

فإذا كان في القرآن أن لله علما وقدرة ، فذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك " وكذلك قوله في الحديث الآخر " اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق " كان هذان الخبران مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية ، وكذلك قوله في الحديث لأهل الجنة " أحل عليكم رضواني " وقوله في حديث الشفاعة " إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله " [ ص: 532 ] وأحاديث : إن الله يحب كذا ويكره كذا ، وأحاديث إن الله يعجب من كذا ، وأحاديث ذكر المشيئة ، وأحاديث الكلام والتكليم ، وأحاديث الرؤية والتجلي وأحاديث الوجه وأحاديث اليدين وأحاديث المجيء والنزول والإتيان ، وأحاديث علو الرب على عرشه واستوائه عليه وفوقيته ، وحديث ندائه بالصوت وقربه من داعيه وعابديه ، وغير ذلك من أحاديث الموافقة للقرآن ، كان قول المبطل : هذه الآحاد لا تفيد العلم ، بمنزلة قول من قال في قصص القرآن إنها لا تفيد العلم .

وهكذا قال المبطلون سواء وإن اختلفت جهة إبطال العلم عندهم من نصوص الوحي ، فنصوص القرآن عندهم لا تفيد علما من جهة الدلالة ، وهذه لا تفيد علما من هذه الجهة ومن جهة السند ، وهذا إبطال لدين الإسلام رأسا ، بل ذكر هذه الأحاديث بمنزلة ذكر أخبار المعاد والجنة والنار التي شهدت بما شهد به القرآن ، وبمنزلة الأخبار الواردة في قصص الأولين وأخبار الأنبياء الموافقة لما في القرآن .

ومن هذا أخبار الأحاديث الصحيحة المروية في أسباب نزول القرآن وبيان المراد منه ، فإنها تشهد باتفاق القرآن والحديث ، فهذه الأحاديث تقرر نصوص القرآن وتكشف معانيها كشفا مفصلا ، وتقرب المراد وتدفع عنه الاحتمالات ، وتفسر المجمل منه وتبينه وتوضحه لتقوم حجة الله به ، ويعلم أن الرسول بين ما أنزل إليه من ربه ، وأنه بلغ ألفاظه ومعانيه بلاغا مبينا حصل به العلم اليقيني ، بلاغا أقام الحجة ، وقطع المعذرة وأوجب العلم ، وبينه أحسن البيان وأوضحه .

ولهذا كان أئمة السلف وأتباعهم يذكرون الآيات في هذا الباب ، ثم يتبعونها بالأحاديث الموافقة لها ، كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعده من المصنفين في السنة ، فإن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تضمنته أحاديث النزول والرؤية والتكليم والوجه واليدين والإتيان والمجيء بما في القرآن ، ويثبتون اتفاق دلالة القرآن والسنة عليها ، وأنهما من مشكاة واحدة ولا ينكر ذلك من له أدنى معرفة وإيمان ، وإنما يحسن الاستدلال على معاني القرآن بما رواه الثقات عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء ، ثم يتبعون ذلك بما قاله الصحابة والتابعون أئمة الهدى . وهل يخفى على ذي عقل سليم أن تفسير القرآن بهذه الطريق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال وشيوخ التجهم والاعتزال كالمريسي والجبائي والنظام والعلاف وأضرابهم من أهل التفرق والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالات وبدعا ، وفرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وتقطعوا أمرهم بينهم كل حزب بما لديهم فرحون .

[ ص: 533 ] فإذا لم يجز تفسير القرآن بإثبات ما دل عليه ، وحصول العلم واليقين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة ، وكلام الصحابة وتابعيهم ، أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلى تحريفات جهم وشيعته ، وتأويلات العلاف والنظام والجبائي والمريسي . وعبد الجبار وأتباعهم من كل أعمى أعجمي القلب واللسان ، بعيد عن السنة والقرآن ، مغمور عند أهل العلم والإيمان ؟ .

فإذا كانت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد علما فجميع ما يذكره هؤلاء من اللغة والشعر الذي يحرفون به القرآن والسنن أولى وأحرى أن لا يفيد علما ولا ظنا .

فمن المعلوم بالضرورة أن المجازات والاستعارات والتأويلات التي استفادوها من اللغة والشعر الذي لم ينقله إلا الآحاد ، دون ما يستفاد من نقل أهل الحديث ، وعلمنا بمراد هذا الناظم والناثر من كلامه ، دون علمنا بمراد الله ورسوله والصحابة من كلامهم بكثير ، فإذا كان هذا دون كلام الله ورسوله في النقل والدلالة لم يكن حمل معاني القرآن عليه بأولى من حملها على معنى الحديث والآثار ، وإذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بمعناه إلا جهة نقل الشعر وغرائب اللغة ووحشيها ، وأفهام الجهمية والمعطلة ، لا من طريق نقل الأحاديث والآثار تعطلت دلالة الكتاب والسنة ، وسقط الاستدلال بهما ، وحصلت لنا الحوالة على أفراخ المجوس وورثة الصابئين وتلامذة الفلاسفة وأوقاح المعتزلة .

ثم لو ثبت بنقل العدل عن العدل أن الشاعر والناثر أرادا ذلك المعنى بهذا اللفظ لم يكن إثبات اللغة بمجرد هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا أولى من استعمال القرآن المطرد ذلك المعنى في تلك النظائر وعموم المعنى لموارد استعمال ذلك اللفظ ، ولهذا تسمى تلك الألفاظ " النظائر " وفيها صنفت كتب الوجوه والنظائر ، فالوجوه الألفاظ المشتركة والنظائر والألفاظ المتواطئة ( الأول ) فيما اتفق لفظه واختلف معناه ( والثاني ) فيما اتفق لفظه ومعناه .

فحمل كلام الله سبحانه على ما يؤخذ من النظائر في كلامه وكلام رسوله وكلام أصحابه الذين كانوا يتخاطبون بلغته ، والتابعين الذين أخذوا عنهم أولى من حمل معانيه على ما يؤخذ من كلام بعض الشعراء والأعراب ، فالاحتمال يتطرق إلى فهم كلام الله ورسوله والصحابة كما يتطرق إلى فهم كلام أولئك في نظمهم ونثرهم ، فما يقدر من احتمال مجاز وإضمار واشتراك وغيره ، فتطرقه إلى كلامهم كثر ، وهذا كله على طريق النزول وإلا فالأمر فوق ذلك ، وهذا يتبين بطريقين : [ ص: 534 ] أحدهما : بيان استقامة هذه الطريق .

الثاني : بيان أنه لا طريق يقوم مقامها .

فأما المقام الأول فبيانه من وجوه :

أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه القرآن لفظه ومعناه ، فبلغهم معانيه كما بلغهم ألفاظه ، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك قال تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم وقال : هذا بيان للناس وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون وقال تعالى : كتاب فصلت آياته أي بينت وأزيل عنها الإجمال ، فلو كانت آياته مجملة لم تكن قد فصلت ، وقال تعالى : وما على الرسول إلا البلاغ المبين وهذا يتضمن بلاغ المعنى وأنه في أعلى درجات البيان .

فمن قال إنه لم يبلغ الأمة معاني كلامه وكلام ربه بلاغا مبينا ، بل بلغهم ألفاظه ، وأحالهم في فهم معانيه على ما يذكروه هؤلاء ، لم يكن قد شهد له بالبلاغ ، وهذا هو حقيقة قولهم حتى أن منهم من يصرح به ويقول : إن المصلحة كانت في كتمان معاني هذه الألفاظ ، وعدم تبليغها للأمة ، إما لمصلحة الجمهور ، ولكونهم لا يفهمون المعاني إلا في قوالب الحسيات وضرب الأمثال ، وإما لينال الكادحون ثواب كدحهم في استنباط معانيها واستخراج تأويلاتها من وحشي اللغات وغرائب الأشعار ، ويغوصون بأفكارهم الدقيقة على صرفها عن حقائقها ما أمكنهم .

وأما أهل العلم والإيمان فيشهدون له بما يشهد الله به وشهدت به ملائكته وخيار القرون أنه بلغ البلاغ المبين القاطع للعذر المقيم للحجة ، الموجب للعلم واليقين لفظا ومعنى والجزم بتبليغه معاني القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ ، بل أعظم من ذلك ؛ لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواص أمته ، وأما المعاني التي بلغها فإنه يشترك في العلم بها العامة والخاصة .

ولما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجمع لأحد مثله قبله ولا بعده ، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم ، قال لهم : أنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد [ ص: 535 ] أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، ورفع أصبعه إلى السماء رافعا لها من هو فوقها وفوق كل شيء قائلا : " اللهم اشهد " فكأنا شهدنا تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله وذلك اللسان الكريم وهو يقول : " اللهم اشهد " ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، وكشف لهم طرائق الهدى ، وأوضح لهم معالم الدين ، وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، فلا يحتاج مع كشفه وبيانه إلى تنطع المتنطعين فالحمد لله الذي أغنانا بوحيه ورسوله عن تكلفات المتكلفين .

قال أبو عبد الرحمن السلمي أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه عن مثل عبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة ، حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل فالصحابة أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظ القرآن ومعانيه ، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني من عنايتهم بالألفاظ ، يأخذون المعاني أولا ، ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذ عنهم .

قال حبيب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا .

فإذا كان الصحابة تلقوا عن نبيهم معاني القرآن كما تلقوا عنه ألفاظه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد ، فنقل معاني القرآن عنهم كنقل ألفاظه سواء ، ولا يقدح في ذلك تنازع بعضهم في بعض معانيه كما وقع من تنازعهم في بعض حروفه وتنازعهم في بعض السنة لخفاء ذلك على بعضهم ، فإنه ليس كل فرد منهم تلقى من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم بلا واسطة جميع القرآن والسنة ، بل كان بعضهم يأخذ عن بعض ويشهد بعضهم في غيبة بعض ، وينسى هذا بعض ما حفظه صاحبه ، قال البراء بن عازب : ليس كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يكذب بعضنا بعضا .

الوجه الثاني : أن الله سبحانه أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن وامتن بذلك على المؤمنين ، والحكمة هي السنة كما قال غير واحد من السلف ، وهو كما قالوا فإن الله تعالى قال : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة فنوع المتلو إلى نوعين : آيات وهي القرآن ، وحكمة وهي السنة ، والمراد بالسنة ما أخذ [ ص: 536 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا إنه مثل القرآن وأكثر " .

وقال الأوزاعي عن حسان بن عطية كان جبرائيل ينزل بالقرآن والسنة ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن ، فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم ، نزل بها جبرائيل من عند الله عز وجل كما نزل بالقرآن ، وقال إسماعيل بن عبد الله : ينبغي لها أن تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها بمنزلة القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية