الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 103 ] القسم الرابع

          فيما اختلف في رد خبر الواحد به وفيه عشر مسائل

          المسألة الأولى

          اختلفوا في نقل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى دون اللفظ .

          والذي عليه اتفاق الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن البصري وأكثر الأئمة أنه يحرم ذلك على الناقل ، إذ [1] كان غير عارف بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها ، وإن كان عالما بذلك ، فالأولى له النقل بنفس اللفظ إذ هو أبعد عن التغيير والتبديل وسوء التأويل .

          وإن نقله بالمعنى من غير زيادة في المعنى ، ولا نقصان منه ، فهو جائز .

          ونقل عن ابن سيرين [2] وجماعة من السلف وجوب نقل اللفظ على صورته ، وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة .

          ومنهم من فصل وقال : بجواز إبدال اللفظ بما يرادفه ، ولا يشتبه الحال فيه ، ولا يجوز بما عدا ذلك .

          والمختار مذهب الجمهور ، ويدل عليه النص ، والإجماع ، والأثر والمعقول .

          أما النص ، فما روى ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : " يا رسول الله تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث [3] وأيضا ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مقررا لآحاد رسله إلى البلاد في إبلاغ أوامره ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو دليل الجواز .

          [ ص: 104 ] وأما الإجماع فما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا أو نحوه ، ولم ينكر عليه منكر ، فكان إجماعا .

          وأما الأثر فما روي عن مكحول أنه قال : دخلنا على واثلة بن الأسقع فقلنا : " حدثنا حديثا ليس فيه تقديم ولا تأخير " ، فغضب وقال : " لا بأس إذا قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى " [4] .

          وأما المعقول فمن وجهين : الأول أن الإجماع منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم ، وإذا جاز الإبدال بغير العربية في تفهم المعنى ، فالعربية أولى .

          الثاني : هو أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود لذاته ونفسه ، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى في الكرات المتعددة بألفاظ مختلفة ، بل المقصود إنما هو المعنى ، ومع حصول المعنى ، فلا أثر لاختلاف اللفظ .

          فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول :

          أما النص : فقوله صلى الله عليه وسلم : " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، وأداها كما سمعها ، فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .

          وأما المعقول فمن وجهين : الأول أن العلماء بالعربية وأهل الاجتهاد ، قد يختلفون في معنى اللفظ الوارد مع اتحاده ، حتى إن كل واحد منهم قد يتنبه منه على ما لا يتنبه عليه الآخر .

          وعند ذلك فالراوي وإن كان عالما بالعربية واختلاف دلالات الألفاظ ، فقد يحمل اللفظ على معنى فهمه من الحديث مع الغفلة عن غير ذلك .

          فإذا أتى بلفظ يؤدي المعنى الذي فهمه من اللفظ النبوي دون غيره ، مع احتمال أن يكون ما أخل به هو المقصود أو بعض المقصود ، فلا يكون وافيا بالغرض من اللفظ ، وربما اختل المقصود من اللفظ بالكلية بتقدير تعدد النقلة ، بأن ينقل كل واحد ما سمعه من الراوي الذي قبله بألفاظ غير ألفاظه على حسب ما يعقله من لفظه ، مع التفاوت اليسير في المعنى ، حتى ينتهي المعنى الأخير إلى مخالفة المعنى المقصود باللفظ النبوي بالكلية ، وهو ممتنع .

          [ ص: 105 ] الثاني : أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم قول تعبدنا باتباعه ، فلا يجوز تبديله بغيره ، كالقرآن وكلمات الأذان والتشهد والتكبير .

          والجواب : عن النص من وجهين : الأول : القول بموجبه ، وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن يقال أدى ما سمع كما سمع ، ولهذا يقال لمن ترجم لغة إلى لغة ، ولم يغير المعنى ، أدى ما سمع كما سمع ، ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون اللفظ ، ما ذكره من التعليل ، وهو اختلاف الناس في الفقه ، إذ هو المؤثر في اختلاف المعنى .

          وأما الألفاظ التي لا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضها مقام بعض ، فذلك مما يستوي فيه الفقيه والأفقه ومن ليس بفقيه ، ولا يكون مؤثرا في تغيير المعنى .

          الثاني : أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر بالمعنى دون اللفظ ، وذلك لأن الظاهر أن الخبر المروي حديث واحد ، والأصل عدم تكرره من النبي - صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فقد روي بألفاظ مختلفة ، فإنه قد روي نضر الله امرأ ، ورحم الله امرأ ، ورب حامل فقه غير فقيه ، وروي لا فقه له [5] .

          وعن المعنى الأول من المعقول أن الكلام إنما هو مفروض في نقل المعنى من غير زيادة ولا نقصان ، حتى إنه لو ظهرت فيه الزيادة والنقصان لم يكن جائزا .

          وعن الثاني بالفرق بين ما نحن فيه وما ذكروه من الأصول المقيس عليها .

          أما القرآن فلأن المقصود من ألفاظه الإعجاز ، فتغييره مما يخرجه عن الإعجاز فلا يجوز ، ولا كذلك الخبر فإن المقصود منه المعنى دون اللفظ .

          ولهذا فإنه لا يجوز التقديم والتأخير في القرآن ، وإن لم يختلف المعنى ، كما لو قال بدل اسجدي واركعي ، اركعي واسجدي ، ولا كذلك في الخبر .

          وأما كلمات الأذان والتشهد والتكبير ، فالمقصود منها إنما هو التعبد بها ، وذلك لا يحصل بمعناها ، والمقصود من الخبر هو المعنى دون اللفظ . كيف وإنه ليس قياس الخبر على ما ذكروه أولى من قياسه على الشهادة ؛ حيث تجوز الشهادة على شهادة الغير مع اتحاد المعنى ، وإن كان اللفظ مختلفا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية