الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : ملاحظة نور الكشف . وهي تسبل لباس التولي وتذيق طعم التجلي . وتعصم من عوار التسلي .

هذه الدرجة : أتم مما قبلها . فإن تلك الدرجة : ملاحظة ما سبق بنور العلم . وهذه ملاحظة كشف بحال قد استولى على قلبه ، حتى شغله عن الخلق . فأسبل عليه لباس توليه الله وحده وتوليه عما سواه .

ونور الكشف عندهم : هو مبدأ الشهود . وهو نور تجلي معاني الأسماء الحسنى على القلب . فتضيء به ظلمة القلب . ويرتفع به حجاب الكشف .

ولا تلتفت إلى غير هذا ، فتزل قدم بعد ثبوتها . فإنك تجد في كلام بعضهم : تجلي الذات يقتضي كذا وكذا ، وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا ، وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا . والقوم عنايتهم بالألفاظ . فيتوهم المتوهم : أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان ، فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات . [ ص: 110 ] والصادقون العارفون برآء من ذلك .

وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة ، وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض ، واستيلاء سلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية . فلا يشهد القلب سوى معروفه .

وينظرون هذا بطلوع الشمس . فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب . ولم تعدم الكواكب . وإنما غطى عليها نور الشمس . فلم يظهر لها وجود . وهي في الواقع موجودة في أماكنها . وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب ، قوي سلطانها ، وزالت الموانع والحجب عن القلب .

ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله .

ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف : برزت وتجلت للعبد - كما تجلى سبحانه للطور ، وكما يتجلى يوم القيامة للناس - إلا غالط فاقد للعلم . وكثيرا ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات .

فإن العبادة الصحيحة ، والرياضة الشرعية ، والذكر المتواطئ عليه القلب واللسان : يوجب نورا على قدر قوته وضعفه . وربما قوي ذلك النور حتى يشاهد بالعيان . فيظنه فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية . فيظنه نور الذات ، وهيهات ! ثم هيهات ! نور الذات لا يقوم له شيء ، ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله ، كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي .

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - إن الله سبحانه لا ينام . ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه . يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

فالإسلام له نور . والإيمان له نور أقوى منه . والإحسان له نور أقوى منهما . فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان ، وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى : امتلأ القلب والجوارح بذلك النور . لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى . فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته .

كما أن مخلوقاته لا تحل فيه . فالخالق سبحانه بائن عن [ ص: 111 ] المخلوق بذاته وصفاته . فلا اتحاد ، ولا حلول ، ولا ممازجة . تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا .

قوله " ويعصم من عوار التسلي " العوار : العيب . والتسلي السلوة عن المحبوب الذي لا حياة للقلب ولا نعيم إلا بحبه والقرب منه ، والأنس بذكره . فإن سلو القلب وغفلته عن ذكره : هو من أعظم العيوب . فهذه الملاحظة إذا صدقت عصمت صاحبها عن عيب سلوته عن مطلوبه ومراده . فإنه في هذه الدرجة مستغرق في شهود الأسماء والصفات .

وقد استولى على قلبه نور الإيمان بها ومعرفتها ، ودوام ذكرها . ومع هذا : فباب السلوة عليه مسدود ، وطريقها عليه مقطوع . والمحب يمكنه التسلي قبل أن يشاهد جمال محبوبه ، ويستغرق في شهود كماله ، ويغيب به عن غيره . فإذا وصل إلى هذه الحال كان كما قيل :


مرت بأرجاء الخيال طيوفه فبكت على رسم السلو الدارس

التالي السابق


الخدمات العلمية