الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) : قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاءوا ، فنسخ ذلك . وقال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة . فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس . وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جوابا لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته . وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ قاله سعيد بن جبير . وقيل : في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا . وقيل : فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة متغيمة ، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة . وقد روي ذلك في حديث عن جابر ، أن ذلك وقع لسرية ، وعن عامر بن ربيعة ، أن ذلك جرى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر ، ولو صح ذلك ، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة . وقال النخعي : الآية عامة ، أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم . وقيل : نزلت حين صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت .

وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها . وقد صنف الواحدي في ذلك كتابا قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح . والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر الله ، إذ المشرق والمغرب لله تعالى ، فأي جهة أديتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد . والمعنى : ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما . فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : ولله المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفا لهما ، حيث أضيفا لله ، وإن كانت الأشياء كلها لله ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى . وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان .

وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن لله تولي إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان - إذ ذاك - بمعنى الشروق والغروب . ويبعد هذا القول قوله بعد : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) . وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية . وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم . وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما . ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه . وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله . وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخربون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم . ويقويه قراءة الحسن : ( فأينما تولوا ) ، جعله للغائب ، فجرى على قوله : ( لهم في الدنيا خزي ) ، وعلى قوله : ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، فجرت الضمائر على نسق واحد . قال الزمخشري : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ، [ ص: 361 ] انتهى . فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن . وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب ) مسائل موضوعها علم الفقه ، منها : من صلى في ظلمة مجتهدا إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضا لمرض أو نفلا ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في النجاشي ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه .

( فثم وجه الله ) ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثم قبلة الله ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل . وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثم الله أي علمه وحكمه . وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ) ، ( كل شيء هالك إلا وجهه ) ، وقيل : المعنى العمل لله ، قاله الفراء ، قال :


أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل



وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس : أي جاه وشرف . والتقدير : فثم جلال الله وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع . وحيث جاء الوجه مضافا إلى الله تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه . وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى . وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ؛ لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدرى ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب اطراح هذا القول والاعتماد على ما له محمل في لسان العرب . إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله إما على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركا ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك . والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين .

فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها . ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله - تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا - وفي قوله : ( تولوا فثم وجه الله ) رد على من يقول : إنه في حيز وجهة ؛ لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن . فحيث لم يخصص مكانا ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره .

التالي السابق


الخدمات العلمية