الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابنه عبد الرحمن

                                                                                      العلامة ، الحافظ يكنى : أبا محمد . ولد سنة أربعين ومائتين أو إحدى وأربعين .

                                                                                      قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم : كان -رحمه الله- قد كساه الله نورا وبهاء ، يسر من نظر إليه .

                                                                                      سمعته يقول : رحل بي أبي سنة خمس وخمسين ومائتين ، وما احتلمت بعد ، فلما بلغنا ذا الحليفة احتلمت ، فسر أبي ، حيث أدركت حجة الإسلام ، فسمعت في هذه السنة من محمد بن أبي عبد الرحمن المقرئ .

                                                                                      قلت : وسمع من : أبي سعيد الأشج ، والحسن بن عرفة ، والزعفراني ، ويونس بن عبد الأعلى ، وعلي بن المنذر الطريقي وأحمد بن سنان ، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي وحجاج بن الشاعر ، ومحمد [ ص: 264 ] بن حسان الأزرق ، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه ، وإبراهيم المزني ، والربيع بن سليمان المؤذن ، وبحر بن نصر ، وسعدان بن نصر ، والرمادي ، وأبي زرعة ، وابن وارة ، وخلائق من طبقتهم ، وممن بعدهم بالحجاز والعراق والعجم ، ومصر والشام والجزيرة والجبال . وكان بحرا لا تكدره الدلاء .

                                                                                      روى عنه : ابن عدي ، وحسين بن علي التميمي ، والقاضي يوسف الميانجي وأبو الشيخ ابن حيان ، وأبو أحمد الحاكم ، وعلي بن عبد العزيز بن مردك ، وأحمد بن محمد البصير الرازي ، وعبد الله بن محمد بن أسد الفقيه ، وأبو علي حمد بن عبد الله الأصبهاني ، إبراهيم بن محمد بن يزداد ، وأخوه أحمد ، وإبراهيم بن محمد النصرآباذي ، وأبو سعيد بن عبد الوهاب الرازي ، وعلي بن محمد القصار ، وخلق سواهم .

                                                                                      قال أبو يعلى الخليلي : أخذ أبو محمد علم أبيه ، وأبي زرعة ، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال . صنف في الفقه ، وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار . قال : وكان زاهدا ، يعد من الأبدال .

                                                                                      قلت : له كتاب نفيس في " الجرح والتعديل " ، أربع مجلدات ، وكتاب " الرد على الجهمية " ، مجلد ضخم ، انتخبت منه ، وله " تفسير " كبير في عدة مجلدات ، عامته آثار بأسانيده ، من أحسن التفاسير .

                                                                                      قال الحافظ يحيى بن منده : صنف ابن أبي حاتم " المسند " في ألف [ ص: 265 ] جزء ، وكتاب " الزهد " ، وكتاب " الكنى " ، وكتاب " الفوائد الكبير " ، وفوائد " أهل الري " ، وكتاب " تقدمة الجرح والتعديل " . قلت : وله كتاب " العلل " مجلد كبير . وقال الرازي ، المذكور في ترجمة عبد الرحمن : سمعت علي بن محمد المصري -ونحن في جنازة ابن أبي حاتم - يقول : قلنسوة عبد الرحمن من السماء ، وما هو بعجب ، رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة ، لم ينحرف عن الطريق .

                                                                                      وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول : ما رأيت أحدا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط . وسمعت عباس بن أحمد يقول : بلغني أن أبا حاتم قال : ومن يقوى على عبادة عبد الرحمن ! لا أعرف لعبد الرحمن ذنبا . وسمعت عبد الرحمن يقول : لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ، ثم كتبت الحديث .

                                                                                      قال الخليلي : يقال : إن السنة بالري ختمت بابن أبي حاتم ، وأمر بدفن الأصول من كتب أبيه وأبي زرعة ، ووقف تصانيفه ، وأوصى إلى الدرستيني القاضي . [ ص: 266 ]

                                                                                      وسمعت أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ يحكي عن علي بن الحسين الدرستيني ، أن أبا حاتم كان يعرف الاسم الأعظم ، فمرض ابنه ، فاجتهد أن لا يدعو به ، فإنه لا ينال به الدنيا ، فلما اشتدت العلة ، حزن ، ودعا به ، فعوفي ، فرأى أبو حاتم في نومه : استجبت لك ولكن لا يعقب ابنك . فكان عبد الرحمن مع زوجته سبعين سنة ، فلم يرزق ولدا ، وقيل : إنه ما مسها .

                                                                                      وقال الرازي : وسمعت علي بن أحمد الخوارزمي يقول : سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول : كنا بمصر سبعة أشهر ، لم نأكل فيها مرقة ، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ ، وبالليل : النسخ والمقابلة . قال : فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا ، فقالوا : هو عليل ، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا ، فاشتريناه ، فلما صرنا إلى البيت ، حضر وقت مجلس ، فلم يمكنا إصلاحه ، ومضينا إلى المجلس ، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام ، وكاد أن يتغير ، فأكلناه نيئا ، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه . ثم قال : لا يستطاع العلم براحة الجسد .

                                                                                      قال الخطيب الرازي : كان لعبد الرحمن ثلاث رحلات : الأولى مع أبيه سنة خمسين ، وسنة ست ، ثم حج وسمع محمد بن حماد في سنة اثنتين ، ثم رحل بنفسه إلى السواحل والشام ومصر ، سنة اثنتين وستين ومائتين ، ثم رحل إلى أصبهان ، في سنة أربع وستين ، فلقي يونس بن حبيب . سمعت الواعظ أبا عبد الله القزويني يقول : إذا صليت مع عبد الرحمن [ ص: 267 ] فسلم إليه نفسك ، يعمل بها ما شاء . دخلنا يوما بغلس على عبد الرحمن في مرض موته ، فكان على الفراش قائما يصلي ، وركع فأطال الركوع .

                                                                                      ومن كلامه : قال : وجدت ألفاظ التعديل والجرح مراتب : فإذا قيل : ثقة : أو : متقن . احتج به ، وإن قيل : صدوق ، أو : محله الصدق ، أو : لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه ، وينظر فيه وهي المنزلة الثانية ، وإذا قيل : شيخ ، فيكتب حديثه ، وهو دون ما قبله ، وإذا قيل : صالح الحديث ، فيكتب حديثه وهو دون ذلك يكتب للاعتبار ، وإذا قيل : لين ، فدون ذلك ، وإذا قالوا : ضعيف الحديث ، فلا يطرح حديثه ، بل يعتبر به ، فإذا قالوا : متروك الحديث ، أو : ذاهب الحديث ، أو : كذاب ، فلا يكتب حديثه .

                                                                                      قال عمر بن إبراهيم الهروي الزاهد : حدثنا الحسين بن أحمد الصفار ، سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول : وقع عندنا الغلاء ، فأنفذ بعض أصدقائي حبوبا من أصبهان ، فبعته بعشرين ألفا ، وسألني أن أشتري له دارا عندنا ، فإذا جاء ينزل فيها ، فأنفقتها في الفقراء ، وكتبت إليه : اشتريت لك بها قصرا في الجنة ، فبعث يقول : رضيت ، فاكتب على نفسك صكا ، ففعلت ، فأريت في المنام : قد وفينا بما ضمنت ، ولا تعد لمثل هذا .

                                                                                      قال الإمام أبو الوليد الباجي : عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ . [ ص: 268 ] وقال أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي : سمعت أبا بكر محمد بن مهرويه الرازي ، سمعت علي بن الحسين بن الجنيد ، سمعت يحيى بن معين يقول : إنا لنطعن على أقوام ، لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة ، من أكثر من مائتي سنة .

                                                                                      قلت : لعلها من مائة سنة ، فإن ذلك لا يبلغ في أيام يحيى هذا القدر .

                                                                                      قال ابن مهرويه : فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم ، وهو يقرأ على الناس كتاب : " الجرح والتعديل " ، فحدثته بهذا ، فبكى ، وارتعدت يداه ، حتى سقط الكتاب ، وجعل يبكي ، ويستعيدني الحكاية .

                                                                                      قلت : أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة ، وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله ، والذب عن السنة .

                                                                                      وقد كتب إلي عبد الرحمن بن محمد وجماعة ، سمعوا عمر بن محمد يقول : أخبرنا هبة الله بن محمد ، أخبرنا محمد بن محمد بن غيلان ، أخبرنا أبو إسحاق المزكي أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الحنظلي ، حدثنا هارون بن حميد ، حدثنا الفضل بن عنبسة ، أخبرنا شعبة عن الحكم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : الجار أحق بسقب داره أو أرضه [ ص: 269 ] أخرجه النسائي ، عن زكريا خياط السنة ، عن هارون هذا ، فوقع لنا بدلا عاليا بدرجتين .

                                                                                      توفي ابن أبي حاتم في المحرم ، سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري ، وله بضع وثمانون سنة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية