الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      طارق

                                                                                      مولى موسى بن نصير ، وكان أميرا على طنجة بأقصى المغرب ، فبلغه اختلاف الفرنج واقتتالهم ، وكاتبه صاحب الجزيرة الخضراء ليمده على عدوه ، فبادر طارق وعدى في جنده ، وهزم الفرنج ، وافتتح قرطبة وقتل صاحبها لذريق ، وكتب بالنصر إلى مولاه ، فحسده على الانفراد بهذا الفتح العظيم ، وتوعده وأمره أن لا يتجاوز مكانه ، وأسرع موسى بجيوشه ، فتلقاه طارق وقال : إنما أنا مولاك ، وهذا الفتح لك . فأقام موسى بن نصير بالأندلس سنتين يغزو ويغنم ، وقبض على طارق ، وأساء إليه ، ثم استخلف على الأندلس ولده عبد العزيز بن موسى ، وكان جنده عامتهم من البربر ، فيهم شجاعة مفرطة وإقدام . [ ص: 501 ]

                                                                                      وله فتوحات عظيمة جدا بالمغرب ، كما كان لقتيبة بن مسلم بالشرق - في هذا الوقت - فتوحات لم يسمع بمثلها .

                                                                                      وفي هذه المدة وبعدها كانت غزوة القسطنطينية في البر والبحر ، ودام الحصار نحوا من سنة ، وكان علم الجهاد في أطراف البلاد منشورا ، والدين منصورا ، والدولة عظيمة ، والكلمة واحدة .

                                                                                      قال سعيد بن عبد العزيز : أخبرني رجل أن سليمان هم بالإقامة ببيت المقدس ، وقدم عليه موسى بن نصير وأخوه مسلمة ، فجاءه الخبر أن الروم طلعوا من ساحل حمص ، وسبوا جماعة فيهم امرأة لها ذكر ، فغضب سليمان وقال : ما هو إلا هذا ، نغزوهم ويغزونا ، والله لأغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية أو أموت .

                                                                                      ثم التفت إلى مسلمة وإلى موسى بن نصير ، فقال : أشيرا علي . فقال موسى : يا أمير المؤمنين ، إن أردت ذلك ، فسر سيرة الصحابة فيما فتحوه ، كلما فتحوا مدينة اتخذوها دارا وحازوها للإسلام ، فابدأ بالدروب وافتح حصونها حتى تبلغ القسطنطينية ، فإنهم سيعطون بأيديهم . فقال لمسلمة : ما تقول أنت ؟ قال : هذا الرأي إن طال عمر إليه ، أو كان الذي يأتي على رأيك ، وبريد ذلك ، خمس عشرة سنة ، ولكني أرى أن تغزي المسلمين برا وبحرا القسطنطينية ، فيحاصرونها ; فإنهم ما دام عليهم البلاء أعطوا الجزية ، أو أخذت عنوة ، فمتى وقع ذلك ، كان ما دونها من الحصون بيدك . قال : هذا الرأي . فأغزى أهل الشام ، والجزيرة في البر في نحو من عشرين ومائة ألف ، وأغزى أهل مصر والمغرب في البحر في ألف مركب ، عليهم عمر بن هبيرة ، وعلى الكل مسلمة بن عبد الملك .

                                                                                      قال الوليد بن مسلم : فأخبرني غير واحد أن سليمان أخرج لهم العطاء ، وبين لهم غزوتهم وطولها ، ثم قدم دمشق وصلى الجمعة ، ثم عاد [ ص: 502 ] إلى المنبر ، وأخبرهم بيمينه من حصاره القسطنطينية ، فانفروا على بركة الله ، وعليكم بتقوى الله ، ثم الصبر الصبر . وسار حتى نزل بدابق وسار مسلمة وأخذ معه أليون الرومي المرعشي ليدله على الطريق والعوار ، وأخذ ميثاقه على المناصحة إلى أن عبروا الخليج ، وحاصروا قسطنطينة إلى أن برح بهم الحصار ، وعرض أهلها الفدية ، فأبى مسلمة إلا أن يفتحها عنوة ، قالوا : فابعث إلينا أليون ; فإنه منا ويفهم كلامنا . فبعثه ، فغدر وقال : إن ملكتموني أمنتم . فملكوه ، فخرج وقال : قد أجابوني أن يفتحوها ، لكن لا يفتحونها حتى تتنحى عنهم ، قال : أخشى غدرك . فحلف له أن يدفع إليه كل ما فيها من سبي ومال ، فانتقل مسلمة ودخل أليون - لعنه الله - فلبس التاج ، وأمر بنقل العلوفات من خارج فملئوا الأهراء وجاء الصريخ إلى مسلمة ، فكر بالجيش ، فأدرك شيئا من العلوفات ، فغلقوا الأبواب دونه ، فبعث إلى أليون يناشده عهده ، فأرسل إليه أليون يقول : ملك الروم لا يباع بالوفاء .

                                                                                      ونزل مسلمة بفنائها ثلاثين شهرا حتى أكل الناس في المعسكر الميتة والعذرة من الجوع ، هذا وفي وسط المعسكر عرمة حنطة مثل الجبل يغبطون بها الروم .

                                                                                      قال محمد بن زياد الألهاني : غزونا القسطنطينية ، فجعنا حتى هلك ناس كثير ، فإن كان الرجل يخرج إلى قضاء الحاجة والآخر ينظر إليه ، فإذا قام ، أقبل ذاك على رجيعه فأكله ، وإن كان الرجل ليذهب إلى الحاجة ، فيؤخذ ويذبح ويؤكل ، وإن الأهراء من الطعام كالتلال لا نصل إليها نكايد بها أهل القسطنطينية .

                                                                                      فلما استخلف عمر بن عبد العزيز ، أذن لهم في الترحل عنها .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية