الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الحاكم

                                                                                      محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم ، [ ص: 163 ] الإمام الحافظ ، الناقد العلامة ، شيخ المحدثين ، أبو عبد الله بن البيع الضبي الطهماني النيسابوري ، الشافعي ، صاحب التصانيف .

                                                                                      مولده في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الأول ، سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بنيسابور .

                                                                                      وطلب هذا الشأن في صغره بعناية والده وخاله ، وأول سماعه كان في سنة ثلاثين ، وقد استملى على أبي حاتم بن حبان في سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثلاث عشرة سنة .

                                                                                      ولحق الأسانيد العالية بخراسان والعراق وما وراء النهر ، وسمع من نحو ألفي شيخ ، ينقصون أو يزيدون ، فإنه سمع بنيسابور وحدها من ألف نفس ، وارتحل إلى العراق وهو ابن عشرين سنة ، فقدم بعد موت إسماعيل الصفار بيسير .

                                                                                      وحدث عن أبيه وكان أبوه قد رأى مسلما صاحب " الصحيح " ، وعن محمد بن علي المذكر ، ومحمد بن يعقوب الأصم ، ومحمد بن يعقوب الشيباني بن الأخرم ، ومحمد بن أحمد بن بالويه الجلاب ، وأبي جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي صاحب ابن واره ، ومحمد بن عبد الله بن أحمد الصفار ، وصاحبي الحسن بن عرفة : [ ص: 164 ] علي بن الفضل الستوري ، وعلي بن عبد الله الحكيمي ، وإسماعيل بن محمد الرازي ، ومحمد بن القاسم العتكي ، وأبي جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي الجمال ، ومحمد بن المؤمل الماسرجسي ، ومحمد بن أحمد بن محبوب محدث مرو ، وأبي حامد أحمد بن علي بن حسنويه ، والحسن بن يعقوب البخاري ، والقاسم بن القاسم السياري ، وأبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي ، وأحمد بن محمد بن عبدوس العنزي ، ومحمد بن أحمد الشعيبي الفقيه ، وإسماعيل بن محمد بن الشعراني ، وأبي أحمد بكر بن محمد المروزي الصيرفي ، وأبي الوليد حسان بن محمد الفقيه ، وأبي علي الحسين بن علي النيسابوري الحافظ ، وحاجب بن أحمد الطوسي ، لكن عدم سماعه منه ، وعلي بن حمشاد العدل ، ومحمد بن صالح بن هانئ ، وأبي النضر محمد بن محمد الفقيه ، وأبي عمرو وعثمان بن أحمد الدقاق البغدادي ، وأبي بكر النجاد ، وعبد الله بن درستويه ، وأبي سهل بن زياد ، وعبد الباقي بن قانع ، وعبد الرحمن بن حمدان الجلاب شيخ همذان ، والحسين بن الحسن الطوسي ، وعلي بن محمد بن محمد بن عقبة الشيباني ، ومحمد بن حاتم بن خزيمة الكشي - شيخ زعم أنه لقي عبد بن حميد - وأمم سواهم بحيث إنه روى عن أبي طاهر الزيادي ، والقاضي أبي بكر الحيري .

                                                                                      حدث عنه : الدارقطني وهو من شيوخه ، وأبو الفتح بن أبي [ ص: 165 ] الفوارس ، وأبو العلاء الواسطي ، ومحمد بن أحمد بن يعقوب ، وأبو ذر الهروي ، وأبو يعلى الخليلي ، وأبو بكر البيهقي ، وأبو القاسم القشيري ، وأبو صالح المؤذن ، والزكي عبد الحميد البحيري ، ومؤمل بن محمد بن عبد الواحد ، وأبو الفضل محمد بن عبيد الله الصرام ، وعثمان بن محمد المحمي ، وأبو بكر أحمد بن علي بن خلف ، الشيرازي ، وخلق سواهم .

                                                                                      وصنف وخرج ، وجرح وعدل ، وصحح وعلل ، وكان من بحور العلم على تشيع قليل فيه .

                                                                                      وقد قرأ بالروايات على ابن الإمام ومحمد بن أبي منصور الصرام ، وأبي علي بن النقار مقرئ الكوفة ، وأبي عيسى بكار مقرئ بغداد .

                                                                                      وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة ، وأبي الوليد حسان بن محمد ، وأبي سهل الصعلوكي .

                                                                                      وأخذ فنون الحديث عن أبي علي الحافظ والجعابي ، وأبي أحمد الحاكم والدارقطني ، وعدة .

                                                                                      وقد أخذ عنه من شيوخه : أبو إسحاق المزكي ، وأحمد بن أبي عثمان الحيري ، ورأيت عجيبة وهي أن محدث الأندلس أبا عمر [ ص: 166 ] الطلمنكي قد كتب كتاب " علوم الحديث " للحاكم في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة ، عن شيخ سماه ، عن رجل آخر ، عن الحاكم .

                                                                                      وقد صحب الحاكم من مشايخ الطريق إسماعيل بن نجيد ، وجعفرا الخلدي ، وأبا عثمان المغربي .

                                                                                      وقع لي حديثه عاليا بإسناد فيه إجازة .

                                                                                      قرأت على أبي علي بن الخلال : أخبركم جعفر بن علي ، أخبرنا السلفي ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الجبار ، سمعت الخليل بن عبد الله الحافظ ذكر الحاكم وعظمه ، وقال : له رحلتان إلى العراق والحجاز ، الثانية في سنة ثمان وستين ، وناظر الدارقطني ، فرضيه ، وهو ثقة واسع العلم ، بلغت تصانيفه قريبا من خمسمائة جزء ، يستقصي في ذلك ، يؤلف الغث والسمين . ثم يتكلم عليه ، فيبين ذلك .

                                                                                      قال : وتوفي في سنة ثلاث وأربعمائة كذا قال .

                                                                                      قال : وسألني في اليوم الثاني لما دخلت عليه ، ويقرأ عليه في فوائد العراقيين : سفيان الثوري ، عن أبي سلمة ، عن الزهري ، عن سهل حديث الاستئذان ، فقال لي : من أبو سلمة هذا ؟ فقلت من وقتي : المغيرة بن مسلم السراج . قال : وكيف يروي المغيرة عن الزهري ؟ فبقيت ثم قال لي : قد أمهلتك أسبوعا حتى تتفكر فيه . قال : [ ص: 167 ] فتفكرت ليلتي حتى بقيت أكرر التفكر ، فلما وقعت إلى أصحاب ، الجزيرة من أصحاب الزهري ، تذكرت محمد بن أبي حفصة ، فإذا كنيته أبو سلمة ، فلما أصبحت ، حضرت مجلسه ، ولم أذكر شيئا حتى قرأت عليه نحو مائة حديث ، قال : هل تفكرت فيما جرى ؟ فقلت : نعم هو محمد بن أبي حفصة ، فتعجب ، وقال لي : نظرت في حديث سفيان لأبي عمرو البحيري ؟ فقلت : لا ، وذكرت له ما أممت في ذلك ، فتحير ، وأثنى علي ، ثم كنت أسأله ، فقال : أنا إذا ذاكرت اليوم في باب لا بد من المطالعة لكبر سني . فرأيته في كل ما ألقي عليه بحرا ، وقال لي : أعلم بأن خراسان وما وراء النهر ، لكل بلدة تاريخ صنفه عالم منها ، ووجدت نيسابور مع كثرة العلماء بها لم يصنفوا فيه شيئا ، فدعاني ذلك إلى أن صنفت " تاريخ النيسابوريين " فتأملته ، ولم يسبقه إلى ذلك أحد وصنف لأبي علي بن سيمجور كتابا في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأزواجه وأحاديثه ، وسماه " الإكليل " ، لم أر [ ص: 168 ] أحدا رتب ذلك الترتيب ، وكنت أسأله عن الضعفاء الذين نشئوا بعد الثلاثمائة بنيسابور وغيرها من شيوخ خراسان ، وكان يبين من غير محاباة .

                                                                                      أخبرنا المؤمل بن محمد وغيره كتابة قالوا : أخبرنا زيد بن الحسن ، أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب قال : كان أبو عبد الله بن البيع الحاكم ثقة ، أول سماعه سنة ثلاثين وثلاثمائة ، وكان يميل إلى التشيع ، فحدثني إبراهيم بن محمد الأرموي بنيسابور وكان صالحا عالما قال : جمع أبو عبد الله الحاكم أحاديث ، وزعم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم ، منها حديث الطير وحديث : من كنت مولاه فعلي مولاه فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ، ولم يلتفتوا إلى قوله .

                                                                                      أبو نعيم الحداد : سمعت الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ ، سمعت أبا عبد الرحمن الشاذياخي الحاكم يقول : كنا في مجلس السيد أبي الحسن ، فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير ، فقال : لا يصح ، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم . [ ص: 169 ]

                                                                                      فهذه حكاية قوية ، فما باله أخرج حديث الطير في " المستدرك " ؟ فكأنه اختلف اجتهاده ، وقد جمعت طرق حديث الطير في جزء ، وطرق حديث : " من كنت مولاه " وهو أصح ، وأصح منهما ما أخرجه مسلم عن علي قال : إنه لعهد النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- إلي : إنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق وهذا أشكل الثلاثة ، فقد أحبه قوم لا خلاق لهم ، وأبغضه بجهل قوم من النواصب ، فالله أعلم .

                                                                                      أنبئت عن أبي سعد الصفار : عن عبد الغافر بن إسماعيل قال : الحاكم أبو عبد الله هو إمام أهل الحديث في عصره ، العارف به حق معرفته ، يقال له : الضبي ، لأن جد جدته هو عيسى بن عبد الرحمن الضبي ، وأم عيسى هي منويه بنت إبراهيم بن طهمان الفقيه ، وبيته بيت الصلاح والورع والتأذين في الإسلام ، وقد ذكر أباه في " تاريخه " ، فأغنى عن إعادته ، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة قال : ولقي عبد الله بن محمد بن الشرقي ، وأبا علي الثقفي ، وأبا حامد بن بلال ، ولم يسمع منهم ، وسمع من أبي طاهر المحمداباذي ، وأبي بكر القطان ، ولم يظفر بمسموعه منهما ، وتصانيفه المشهورة تطفح بذكر شيوخه ، وقرأ بخراسان على قراء وقته ، وتفقه [ ص: 170 ] على أبي الوليد ، والأستاذ أبي سهل ، واختص بصحبة الإمام أبي بكر الصبغي ، وكان الإمام يراجعه في السؤال والجرح والتعديل ، وأوصى إليه في أمور مدرسته دار السنة . وفوض إليه تولية أوقافه في ذلك ، وذاكر مثل الجعابي ، وأبي علي الماسرجسي الحافظ الذي كان أحفظ زمانه ، وقد شرع الحاكم في التصنيف سنة سبع وثلاثين ، فاتفق له من التصانيف ما لعله يبلغ قريبا من ألف جزء من تخريج " الصحيحين " ، والعلل والتراجم والأبواب والشيوخ ، ثم المجموعات مثل " معرفة علوم الحديث " و " مستدرك الصحيحين " و " تاريخ النيسابوريين " ، وكتاب " مزكي الأخبار " ، و " المدخل إلى علم الصحيح " ، وكتاب " الإكليل " ، و " فضائل الشافعي " ، وغير ذلك . ولقد سمعت مشايخنا يذكرون أيامه ، ويحكون أن مقدمي عصره مثل أبي سهل الصعلوكي والإمام ابن فورك وسائر الأئمة يقدمونه على أنفسهم ، ويراعون حق فضله ، ويعرفون له الحرمة الأكيدة . ثم أطنب عبد الغافر في نحو ذلك من تعظيمه ، وقال : هذه جمل يسيرة هي غيض من فيض سيره وأحواله ، ومن تأمل كلامه في تصانيفه ، وتصرفه في أماليه ، ونظره في طرق الحديث أذعن بفضله ، واعترف له بالمزية [ ص: 171 ] على من تقدمه ، وإتعابه من بعده ، وتعجيزه اللاحقين عن بلوغ شأوه ، وعاش حميدا ، ولم يخلف في وقته مثله ، مضى إلى رحمة الله في ثامن صفر سنة خمس وأربعمائة

                                                                                      قال أبو حازم عمر بن أحمد العبدويي الحافظ : سمعت الحاكم أبا عبد الله إمام أهل الحديث في عصره يقول : شربت ماء زمزم ، وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف .

                                                                                      قال العبدويي : وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : كتبت على ظهر جزء من حديث أبي الحسين الحجاجي الحافظ ، فأخذ القلم ، وضرب على الحافظ ، وقال : أيش أحفظ أنا ؟ أبو عبد الله بن البياع أحفظ مني ، وأنا لم أر من الحفاظ إلا أبا علي النيسابوري ، وأبا العباس بن عقدة . وسمعت السلمي يقول : سألت الدارقطني : أيهما أحفظ : ابن منده أو ابن البيع ؟ فقال : ابن البيع أتقن حفظا .

                                                                                      قال أبو حازم : أقمت عند أبي عبد الله العصمي قريبا من ثلاث سنين ، ولم أر في جملة مشايخنا أتقن منه ولا أكثر تنقيرا ، وكان إذا أشكل عليه شيء ، أمرني أن أكتب إلى الحاكم أبي عبد الله ، فإذا ورد جواب كتابه ، حكم به ، وقطع بقوله .

                                                                                      قال الحافظ أبو صالح المؤذن : أخبرنا مسعود بن علي [ ص: 172 ] السجزي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك ، حدثنا الحافظ أبو عمرو محمد بن أحمد بن جعفر البحيري ، حدثنا أحمد بن محمد بن الفضل بن مطرف الكرابيسي في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ، حدثنا محمد بن عبد الله بن حمدويه الحافظ ، حدثنا النجاد ، حدثنا محمد بن عثمان ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا سعير بن الخمس ، عن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : إن بلالا يؤذن بليل . . . وذكر الحديث ثم قال مسعود : وحدثنيه الحاكم غير مرة ، وقد كان الحاكم لما روى عنه الكرابيسي هذا شابا طريا .

                                                                                      أنبأنا ابن سلامة عن الحافظ عبد الغني ، أخبرنا أبو موسى المديني ، أخبرنا هبة الله بن عبد الله الواسطي ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، أخبرنا أبو القاسم الأزهري ، حدثنا الدارقطني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري ، حدثنا محمد بن جعفر النسوي ، حدثنا الخليل بن أحمد النسوي ، حدثنا خداش بن مخلد ، حدثنا يعيش بن هشام ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن أنس : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ما أحسن الهدية أمام الحاجة! .

                                                                                      قلت : هذا ملصق بمالك ، وقد حدث به الوليد الموقري أحد [ ص: 173 ] الضعفاء ، عن الزهري مرسلا .

                                                                                      أبو موسى : حدثنا الحسين بن عبد الملك ، عن سعد بن علي الزنجاني ، سمع أبا نصر الوائلي يقول : لما ورد أبو الفضل الهمذاني نيسابور ، تعصبوا له ، ولقبوه : بديع الزمان ، فأعجب بنفسه إذ كان يحفظ المائة بيت إذا أنشدت مرة ، وينشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة ، فأنكر على الناس قولهم : فلان الحافظ في الحديث ، ثم قال : وحفظ الحديث مما يذكر ؟ ! فسمع به الحاكم ابن البيع ، فوجه إليه بجزء ، وأجل له جمعة في حفظه فرد إليه الجزء بعد الجمعة ، وقال : من يحفظ هذا ؟ محمد بن فلان ، وجعفر بن فلان ، عن فلان ؟ أسامي مختلفة ، وألفاظ متباينة ؟ فقال له الحاكم : فاعرف نفسك ، واعلم أن هذا الحفظ أصعب مما أنت فيه .

                                                                                      ثم روى أبو موسى المديني : أن الحاكم دخل الحمام ، فاغتسل ، وخرج . وقال : آه . وقبضت روحه وهو متزر لم يلبس قميصه بعد ، ودفن بعد العصر يوم الأربعاء ، وصلى عليه القاضي أبو بكر الحيري .

                                                                                      قال الحسن بن أشعث القرشي : رأيت الحاكم في المنام على فرس في هيئة حسنة وهو يقول : النجاة . فقلت له : أيها الحاكم ، في ماذا ؟ قال : في كتبة الحديث . [ ص: 174 ]

                                                                                      الخطيب في " تاريخه " حدثني الأزهري قال : ورد ابن البيع بغداد قديما ، فقال : ذكر لي أن حافظكم -يعني : الدارقطني - خرج لشيخ واحد خمسمائة جزء ، فأروني بعضها . فحمل إليه منها ، وذلك مما خرجه لأبي إسحاق الطبري ، فنظر في أول الجزء الأول حديثا لعطية العوفي ، فقال : استفتح بشيخ ضعيف . ورمى الجزء ، ولم ينظر في الباقي .

                                                                                      قال ابن طاهر : سألت سعد بن علي الحافظ عن أربعة تعاصروا : أيهم أحفظ ؟ قال : من ؟ قلت : الدارقطني ، وعبد الغني ، وابن منده ، والحاكم . فقال : أما الدارقطني فأعلمهم بالعلل ، وأما عبد الغني فأعلمهم بالأنساب ، وأما ابن منده فأكثرهم حديثا مع معرفة تامة ، وأما الحاكم فأحسنهم تصنيفا .

                                                                                      أنبأني أحمد بن سلامة ، عن محمد بن إسماعيل الطرسوسي ، عن ابن طاهر : أنه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي ، عن أبي عبد الله الحاكم ، فقال : ثقة في الحديث ، رافضي خبيث .

                                                                                      قلت : كلا ليس هو رافضيا ، بل يتشيع .

                                                                                      قال ابن طاهر : كان شديد التعصب للشيعة في الباطن ، وكان [ ص: 175 ] يظهر التسنن في التقديم والخلافة ، وكان منحرفا غاليا عن معاوية - رضي الله عنه - وعن أهل بيته ، يتظاهر بذلك ، ولا يعتذر منه ، فسمعت أبا الفتح سمكويه بهراة ، سمعت عبد الواحد المليحي ، سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : دخلت على الحاكم وهو في داره ، لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرام وذلك أنهم كسروا منبره ، ومنعوه من الخروج ، فقلت له : لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثا ، لاسترحت من المحنة ، فقال : لا يجيء من قلبي ، لا يجيء من قلبي .

                                                                                      وسمعت المظفر بن حمزة بجرجان ، سمعت أبا سعد الماليني ، يقول : طالعت كتاب " المستدرك على الشيخين " ، الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره ، فلم أر فيه حديثا على شرطهما .

                                                                                      قلت : هذه مكابرة وغلو ، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا ، بل في " المستدرك " شيء كثير على شرطهما ، وشيء كثير على شرط أحدهما ، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل ، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما ، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة ، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد ، وذلك نحو ربعه ، وباقي الكتاب مناكير وعجائب ، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة يشهد القلب ببطلانها ، كنت قد أفردت منها [ ص: 176 ] جزءا ، وحديث الطير بالنسبة إليها سماء ، وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرته ، ويعوز عملا وتحريرا .

                                                                                      قال ابن طاهر : قد سمعت أبا محمد بن السمرقندي يقول : بلغني أن " مستدرك " الحاكم ذكر بين يدي الدارقطني ، فقال : نعم ، يستدرك عليهما حديث الطير! فبلغ ذلك الحاكم ، فأخرج الحديث من الكتاب .

                                                                                      قلت : هذه حكاية منقطعة ، بل لم تقع ، فإن الحاكم إنما ألف " المستخرج " في أواخر عمره ، بعد موت الدارقطني بمدة ، وحديث الطير ففي الكتاب لم يحول منه ، بل هو أيضا في " جامع " الترمذي .

                                                                                      قال ابن طاهر : ورأيت أنا حديث الطير جمع الحاكم بخطه في جزء ضخم ، فكتبته للتعجب .

                                                                                      قال الحاكم في " تاريخه " : ذكرنا يوما ما روى سليمان التيمي عن أنس ، فمررت أنا في الترجمة ، وكان بحضرة أبي علي الحافظ وجماعة من المشايخ ، إلى أن ذكرت حديث : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فحمل بعضهم علي ، فقال أبو علي : لا تفعل ، فما رأيت أنت ولا نحن في سنه مثله ، وأنا أقول : إذا رأيته رأيت ألف [ ص: 177 ] رجل من أصحاب الحديث .

                                                                                      قد مر أن الحاكم مات فجأة في صفر سنة خمس ، وصلى عليه القاضي أبو بكر الحيري .

                                                                                      وفيها مات مسند مكة أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس العبقسي ومسند بغداد أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى المجبر وحافظ شيراز أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد بن الليث الشيرازي المقرئ ، ومسند دمشق أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان بن أبي الحديد السلمي ، وقاضي بغداد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الأكفاني وشيخ الشافعية أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج الدينوري ، وشيخ الشافعية بالبصرة أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية