الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 247 ] أبو حاتم الرازي وابنه ( د ، س ، ت )

                                                                                      محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران : الإمام ، الحافظ ، الناقد ، شيخ المحدثين الحنظلي الغطفاني ، من تميم بن حنظلة بن يربوع ، وقيل : عرف بالحنظلي لأنه كان يسكن في درب حنظلة ، بمدينة الري . كان من بحور العلم . طوف البلاد ، وبرع في المتن والإسناد ، وجمع وصنف ، وجرح وعدل ، وصحح وعلل .

                                                                                      مولده سنة خمس وتسعين ومائة وأول كتابه للحديث كان في سنة تسع ومائتين ، وهو من نظراء البخاري ، ومن طبقته ، ولكنه عمر بعده أزيد من عشرين عاما .

                                                                                      سمع : عبيد الله بن موسى ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، والأصمعي ، وقبيصة ، وأبا نعيم ، وعفان ، وعثمان بن الهيثم المؤذن ، وأبا مسهر الغساني ، وأبا اليمان ، وسعيد بن أبي مريم ، وزهير بن عباد ، ويحيى بن بكير ، وأبا الوليد ، وآدم بن أبي إياس ، وثابت بن محمد الزاهد ، وأبا زيد الأنصاري النحوي ، وعبد الله بن صالح العجلي ، وعبد الله بن صالح الكاتب ، وأبا الجماهر محمد بن عثمان ، وهوذة بن خليفة ، ويحيى [ ص: 248 ] الوحاظي ، وأبا توبة الحلبي ، وخلقا كثيرا . وينزل إلى بندار ، وأبي حفص الفلاس ، والربيع المرادي ، ثم إلى ابن وارة ، ومحمد بن عوف .

                                                                                      ويتعذر استقصاء سائر مشايخه . فقد قال الخليلي : قال لي أبو حاتم اللبان الحافظ : قد جمعت من روى عنه أبو حاتم الرازي ، فبلغوا قريبا من ثلاثة آلاف .

                                                                                      حدث عنه : ولده الحافظ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ويونس بن عبد الأعلى ، والربيع بن سليمان المؤذن شيخاه ، وأبو زرعة الرازي رفيقه وقرابته ، وأبو زرعة الدمشقي ، وإبراهيم الحربي ، وأحمد الرمادي ، وموسى بن إسحاق الأنصاري ، وأبو بكر بن أبي الدنيا ، وأبو عبد الله البخاري -فيما قيل- وأبو داود ، وأبو عبد الرحمن النسائي في " سننهما " ، وابن صاعد ، وأبو عوانة الإسفراييني ، وحاجب بن أركين ، ومحمد بن إبراهيم الكناني ، وزكريا بن أحمد البلخي ، والقاضي المحاملي ، ومحمد بن مخلد العطار ، وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان ، وأبو عمرو محمد بن أحمد بن حكيم ، وسليمان بن يزيد الفامي والقاسم بن صفوان ، وأبو بشر الدولابي ، وأبو حامد بن حسنويه ، وخلق كثير .

                                                                                      وقد حدث في رحلاته بأماكن ، وارتحل بابنه ، ولقي به أصحاب ابن عيينة ووكيع .

                                                                                      قال الحافظ أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي : حدثنا الربيع [ ص: 249 ] المرادي ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا داود الجعفري ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن إبراهيم بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : خير نساء العالمين مريم ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة ثم قال ابن عدي : وحدثناه أبو حاتم .

                                                                                      قال صالح بن أحمد الهمذاني الحافظ : حدثنا القاسم بن أبي صالح ، وسليمان بن يزيد ، قالا : حدثنا أبو حاتم ، قال : حدثني أبو زرعة عني ، عن أبي الجماهر ، أخبرنا إسماعيل بن عياش ، عن عبد العزيز بن عبيد الله ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، يرفعه ، قال : رفع القلم عن ثلاثة .

                                                                                      قال أبو حاتم : كان عندي هذا في قرطاس فضاع . رواه الحافظ أبو بكر الخطيب ، حدثنا علي بن طلحة ، حدثنا صالح . [ ص: 250 ]

                                                                                      قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول : ما رأيت أحفظ من والدك . وكان قد لقي أبا بكر بن أبي شيبة ، وابن نمير ، وابن معين ، ويحيى الحماني .

                                                                                      قال الخطيب : كان أبو حاتم أحد الأئمة الحفاظ الأثبات . . أول سماعه سنة تسع ومائتين .

                                                                                      قال أبو الشيخ الحافظ : حكى لنا عبد الله بن محمد بن يعقوب : سمعت أبا حاتم يقول : نحن من أهل أصبهان ، من قرية جروكان وأهلنا كانوا يقدمون علينا في حياة أبي ، ثم انقطعوا عنا .

                                                                                      قال الخليلي : كان أبو حاتم عالما باختلاف الصحابة ، وفقه التابعين ، ومن بعدهم ، سمعت جدي وجماعة ، سمعوا علي بن إبراهيم القطان يقول : ما رأيت مثل أبي حاتم ! فقلنا له : قد رأيت إبراهيم الحربي ، وإسماعيل القاضي ؟ قال : ما رأيت أجمع من أبي حاتم ، ولا أفضل منه .

                                                                                      علي بن إبراهيم الرازي : حدثنا أحمد بن علي الرقام سمعت الحسن بن الحسين الدارستيني قال : سمعت أبا حاتم يقول : قال لي أبو زرعة : ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك . فقلت له : إن عبد الرحمن ابني لحريص ، فقال : من أشبه أباه فما ظلم . قال الرقام : [ ص: 251 ] فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له ، وسؤالاته لأبيه ، فقال : ربما . كان يأكل وأقرأ عليه ، ويمشي وأقرأ عليه ، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه ، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه . قال أحمد بن سلمة النيسابوري : ما رأيت بعد إسحاق ، ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث من أبي حاتم الرازي ، ولا أعلم بمعانيه .

                                                                                      قال ابن عدي : سمعت القاسم بن صفوان ، سمعت أبا حاتم يقول : أورع من رأيت أربعة : آدم وأحمد بن حنبل ، وثابت بن محمد الزاهد ، وأبو زرعة الرازي . قال القاسم : فذكرته لعثمان بن خرزاذ . فقال : أنا أقول أحفظ من رأيت أربعة : محمد بن المنهال الضرير ، وإبراهيم بن عرعرة ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم .

                                                                                      قال ابن أبي حاتم : سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول : أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان ، ودعا لهما ، وقال : بقاؤهما صلاح للمسلمين . [ ص: 252 ]

                                                                                      وقال محمد بن الحسين بن مكرم : سمعت حجاج بن الشاعر ، وذكرت له أبا زرعة ، وابن وارة ، وأبا جعفر الدارمي ، فقال : ما بالمشرق أنبل منهم .

                                                                                      ابن أبي حاتم : سمعت أبي ، قال لي هشام بن عمار ، أي شيء تحفظ من الأذواء ؟ قلت : ذو الأصابع ، وذو الجوشن ، وذو الزوائد ، وذو اليدين ، وذو اللحية الكلابي ، وعددت له ستة ، فضحك ، وقال : حفظنا نحن ثلاثة ، وزدت أنت ثلاثة .

                                                                                      قال الحافظ عبد الرحمن بن خراش : كان أبو حاتم من أهل الأمانة والمعرفة .

                                                                                      وقال هبة الله اللالكائي كان أبو حاتم إماما حافظا متثبتا . وذكره اللالكائي في شيوخ البخاري .

                                                                                      وقال النسائي : ثقة .

                                                                                      قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : جرى بيني وبين أبي زرعة يوما تمييز الحديث ومعرفته ، فجعل يذكر أحاديث وعللها ، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها ، وخطأ الشيوخ ، فقال لي : يا أبا حاتم ! قل من يفهم هذا ، ما أعز هذا ! إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا ! وربما أشك في شيء ، أو يتخالجني في حديث ، فإلى أن ألتقي معك لا أجد من يشفيني منه . قال أبي : وكذلك كان أمري . [ ص: 253 ]

                                                                                      صالح بن أحمد الحافظ : حدثنا القاسم بن أبي صالح ، سمعت أبا حاتم يقول : قال لي أبو زرعة : ترفع يديك في القنوت ؟ قلت : لا ، فترفع أنت ؟ قال : نعم قلت : فما حجتك ؟ قال : حديث ابن مسعود .

                                                                                      قلت رواه ليث بن أبي سليم . قال فحديث أبي هريرة ؟ قلت رواه ابن لهيعة . قال : حديث ابن عباس ؟ قلت : رواه عوف . قال : فما حجتك في تركه ؟ قلت : حديث أنس بن مالك : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء ، إلا في الاستسقاء فسكت .

                                                                                      وقال ابن أبي حاتم في أول كتاب " الجرح والتعديل " له : سمعت أبي يقول : جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي ، من أهل الفهم منهم ، ومعه دفتر ، فعرضه علي ، فقلت في بعضه : هذا حديث خطأ ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث ، وهذا باطل ، وهذا منكر ، وسائر ذلك صحاح ، فقال : من أين علمت أن ذاك خطأ ، وذاك باطل ، وذاك كذب ؟ أأخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت ، أو بأني كذبت في حديث كذا ؟ قلت : لا ، ما أدري هذا الجزء من راويه ، غير أني أعلم أن هذا الحديث خطأ ، وأن [ ص: 254 ] هذا باطل فقال : تدعي الغيب ؟ قلت : ما هذا ادعاء غيب . قال : فما الدليل على ما قلت ؟ قلت : سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن ، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم . قال : ويقول أبو زرعة كقولك ؟ قلت : نعم ، قال : هذا عجب . قال : فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث ، ثم رجع إلي ، وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث ، فقال : ما قلت إنه كذب ، قال أبو زرعة : هو باطل . قلت : الكذب والباطل واحد ، قال : وما قلت : إنه منكر ، قال : هو منكر ، كما قلت ، وما قلت : إنه صحيح ، قال : هو صحيح . ثم قال : ما أعجب هذا ! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما . قلت : فعند ذلك علمت أنا لم نجازف وأنا قلنا بعلم ومعرفة قد أوتيناه ، والدليل على صحة ما نقوله أن دينارا بهرجا يحمل إلى الناقد ، فيقول : هذا بهرج . فإن قيل له : من أين قلت : إن هذا بهرج ؟ هل كنت حاضرا حين بهرج هذا الدينار ؟ قال : لا . وإن قيل : أخبرك الذي بهرجه ؟ قال : لا . قيل : فمن أين قلت ؟ قال : علما رزقته . وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك ، وكذلك إذا حمل إلى جوهري فص ياقوت وفص زجاج ، يعرف ذا من ذا ، ويقول كذلك . وكذلك نحن رزقنا علما ، لا يتهيأ له أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا كذب ، أو هذا منكر ، فنعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه ، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون كلام النبوة ، ونعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته . [ ص: 255 ] قال : وسمعت أبي يقول : قلت على باب أبي الوليد الطيالسي : من أغرب علي حديثا غريبا مسندا لم أسمع به صحيحا ، فله علي درهم يتصدق به ، وكان ثم خلق : أبو زرعة ، فمن دونه ، وإنما كان مرادي أن يلقى علي ما لم أسمع به ، فيقولون : هو عند فلان ، فأذهب وأسمعه فلم يتهيأ لأحد أن يغرب علي حديثا . وسمعت أبي يقول : كان محمد بن يزيد الأسفاطي قد ولع بالتفسير وتحفظه ، فقال يوما : ما تحفظون في قوله تعالى : فنقبوا في البلاد ( ق : 36 ) . فبقي أصحاب الحديث ينظر بعضهم إلى بعض ، فقلت : حدثنا أبو صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : ضربوا في البلاد . فاستحسن . سمعت أبي يقول : قدم محمد بن يحيى النيسابوري الري ، فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا ، من حديث الزهري ، فلم يعرف منها إلا ثلاثة أحاديث ، وسائر ذلك لم تكن عنده ، ولم يعرفها . سمعت أبي يقول : أول سنة خرجت في طلب الحديث ، أقمت سبع سنين ، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ .

                                                                                      قلت : مسافة ذلك نحو أربعة أشهر ، سير الجادة . قال : ثم تركت العدد بعد ذلك ، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا ، ثم إلى الرملة ماشيا ، ثم إلى دمشق ، ثم أنطاكية وطرسوس ، ثم [ ص: 256 ] رجعت إلى حمص ، ثم إلى الرقة ، ثم ركبت إلى العراق ، كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة . خرجت من الري ، فدخلت الكوفة في رمضان سنة ثلاث عشرة ، وجاءنا نعي المقرئ وأنا بالكوفة ، ثم رحلت ثانيا سنة اثنتين وأربعين ، ثم رجعت إلى الري سنة خمس وأربعين ، وحججت رابع حجة في سنة خمس وخمسين . وحج فيها عبد الرحمن ابنه .

                                                                                      سمعت أبي يقول : كتب عني محمد بن مصفى جزءا انتخبه . وكلمني دحيم في حديث أهل طبرية ، وكانوا سألوني التحديث ، فقلت : بلدة يكون فيها مثل دحيم القاضي أحدث أنا بها ؟ ! فكلمني دحيم ، فقال : إن هذه بلدة نائية عن جادة الطريق ، فقل من يقدم عليهم يحدثهم . سمعت أبي يقول : بقيت في سنة أربع عشرة ثمانية أشهر بالبصرة ، وكان في نفسي أن أقيم سنة ، فانقطعت نفقتي ، فجعلت أبيع ثيابي حتى نفدت ، وبقيت بلا نفقة ، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة ، وأسمع إلى المساء ، فانصرف رفيقي ، ورجعت إلى بيتي ، فجعلت أشرب الماء من الجوع ، ثم أصبحت ، فغدا علي رفيقي ، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد ، وانصرفت جائعا ، فلما كان من الغد ، [ ص: 257 ] غدا علي ، فقال : مر بنا إلى المشايخ . قلت : أنا ضعيف لا يمكنني .

                                                                                      قال : ما ضعفك ؟ قلت : لا أكتمك أمري ، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا ، فقال : قد بقي معي دينار ، فنصفه لك ، ونجعل النصف الآخر في الكراء ، فخرجنا من البصرة ، وأخذت منه النصف دينار . وسمعت أبي يقول : خرجنا من المدينة ، من عند داود الجعفري ، وصرنا إلى الجار وركبنا البحر ، فكانت الريح في وجوهنا ، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر ، وضاقت صدورنا ، وفني ما كان معنا وخرجنا إلى البر نمشي أياما ، حتى فني ما تبقى معنا من الزاد والماء ، فمشينا يوما لم نأكل ولم نشرب ، ويوم الثاني كمثل ، ويوم الثالث ، فلما كان يكون المساء صلينا ، وكنا نلقي بأنفسنا حيث كنا ، فلما أصبحنا في اليوم الثالث ، جعلنا نمشي على قدر طاقتنا ، وكنا ثلاثة أنفس : شيخ نيسابوري ، وأبو زهير المروروذي ، فسقط الشيخ مغشيا عليه ، فجئنا نحركه وهو لا يعقل ، فتركناه ، ومشينا قدر فرسخ ، فضعفت ، وسقطت مغشيا علي ، ومضى صاحبي يمشي ، فبصر من بعد قوما ، قربوا سفينتهم من البر ، ونزلوا على بئر موسى ، فلما عاينهم ، لوح بثوبه إليهم ، فجاءوه معهم ماء في إداوة . فسقوه وأخذوا بيده ، فقال لهم : الحقوا رفيقين لي ، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهه ، ففتحت عيني ، فقلت : اسقني ، فصب من الماء في مشربة قليلا ، فشربت ، ورجعت إلي نفسي ، ثم سقاني قليلا ، وأخذ بيدي ، فقلت : ورائي شيخ ملقي ، فذهب جماعة إليه ، وأخذ بيدي ، وأنا [ ص: 258 ] أمشي وأجر رجلي ، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم ، وأتوا بالشيخ ، وأحسنوا إلينا ، فبقينا أياما حتى رجعت إلينا أنفسنا ، ثم كتبوا لنا كتابا إلى مدينة يقال لها : راية إلى واليهم ، وزودونا من الكعك والسويق والماء . فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والقوت ، فجعلنا نمشي جياعا على شط البحر ، حتى دفعنا إلى سلحفاة مثل الترس ، فعمدنا إلى حجر كبير ، فضربنا على ظهرها ، فانفلق ، فإذا فيها مثل صفرة البيض ، فتحسيناه حتى سكن عنا الجوع ، ثم وصلنا إلى مدينة الراية ، وأوصلنا الكتاب إلى عاملها ، فأنزلنا في داره ، فكان يقدم لنا كل يوم القرع ، ويقول لخادمه : هاتي لهم اليقطين المبارك . فيقدمه مع الخبز أياما ، فقال واحد منا : ألا تدعو باللحم المشئوم ؟ ! فسمع صاحب الدار ، فقال : أنا أحسن بالفارسية ، فإن جدتي كانت هروية ، وأتانا بعد ذلك باللحم ، ثم زودنا إلى مصر . وسمعت أبي يقول : كتبت الحديث سنة تسع ، وأنا ابن أربع عشرة سنة ، وكتبت عن عتاب بن زياد المروزي سنة عشر ، فلما قدم علينا حاجا وكنت أفيد الناس عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، وأنا بالري ، فيخرج الناس إليه ، فيسمعون منه ، ويرجعون وأنا بالري . [ ص: 259 ] وسمعت أبي يقول : كتبت عند عارم وهو يقرأ . وكتبت عند عمرو بن مرزوق وهو يقرأ ، وسرت من الكوفة إلى بغداد ، ما لا أحصي كم مرة .

                                                                                      ابن حبان : أخبرني محمد بن المنذر ، حدثنا محمد بن إدريس ، قال : كان أبو نعيم يوما جالسا ، ورجل في ناحية المجلس يقول : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : فنظر إليه أبو نعيم ، وقال : كذب الدجال ، ما سمعت من ابن جريج شيئا .

                                                                                      ابن حبان : أخبرني محمد بن المنذر ، حدثنا محمد بن إدريس ، حدثنا مؤمل بن يهاب ، عن يزيد بن هارون ، قال : كان بواسط رجل يروي عن أنس بن مالك ، أحرفا ، ثم قيل : إنه أخرج كتابا عن أنس ، فأتيناه ، فقلنا له : هل عندك من شيء من تلك الأحرف ؟ فقال : نعم ، عندي كتاب عن أنس . فقلنا : أخرجه ، فأخرجه ، فنظرنا ، فإذا هي أحاديث شريك بن عبد الله فجعل يقول : حدثنا أنس . فقلنا : هذه أحاديث شريك . فقال : صدقتم ، حدثنا أنس بن مالك ، عن شريك ، قال : فأفسد علينا تلك الأحرف التي سمعناها منه ، وقمنا عنه .

                                                                                      قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب " الرد على الجهمية " ، له : حدثنا أبي ، وأبو زرعة ، قال : كان يحكى لنا أن هنا رجلا من قصته هذا ، فحدثني أبو زرعة ، قال : كان بالبصرة رجل ، وأنا مقيم سنة ثلاثين ومائتين ، فحدثني عثمان بن عمرو بن الضحاك عنه ، أنه قال : إن لم يكن القرآن مخلوقا فمحا الله ما في صدري من القرآن . وكان من قراء القرآن . فنسي القرآن ، حتى كان يقال له : قل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . فيقول : [ ص: 260 ] معروف ، معروف . ولا يتكلم به . قال أبو زرعة : فجهدوا به أن أراه ، فلم أره .

                                                                                      وقال الحافظ أبو القاسم اللالكائي : وجدت في كتاب أبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، مما سمع منه ، يقول : مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين ، والتمسك بمذاهب أهل الأثر ، مثل الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، ولزوم الكتاب والسنة ، ونعتقد أن الله -عز وجل- على عرشه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأن الإيمان يزيد وينقص ، ونؤمن بعذاب القبر ، وبالحوض ، وبالمساءلة في القبر ، وبالشفاعة ، ونترحم على جميع الصحابة . . . . وذكر أشياء .

                                                                                      إذا وثق أبو حاتم رجلا فتمسك بقوله ، فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث ، وإذا لين رجلا ، أو قال فيه : لا يحتج به . فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثقه أحد ، فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنه متعنت في الرجال قد قال في طائفة من رجال " الصحاح " : ليس بحجة ، ليس بقوي ، أو نحو ذلك . وآخر من حدث عنه هو : محمد بن إسماعيل بن موسى الرازي ، عاش إلى بعد سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن إسحاق بن المؤيد أخبرنا زيد بن يحيى بن هبة [ ص: 261 ] الله ببغداد ، أخبرنا أبو القاسم أحمد بن المبارك بن قفرجل ، أخبرنا عاصم بن الحسن ، قال : أخبرنا أبو عمر بن مهدي الفارسي ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل إملاء ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا أبو مسهر ، أخبرنا إسماعيل بن عياش ، حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : قال الله -عز وجل- : ابن آدم ! اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره أخبرنا المؤمل بن محمد وابن علان كتابة ، قالا : أخبرنا أبو اليمن الكندي ، أخبرنا عبد الرحمن الشيباني ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، أخبرنا أبو عمر بن مهدي ، أخبرنا ابن مخلد ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا خالد بن الحباب بالشام ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن أبي موسى ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : احتج آدم وموسى ، فحج آدم موسى [ ص: 262 ] أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن سنة اثنتين وتسعين وستمائة ، أخبرنا محمد بن خلف الحنبلي سنة ست عشرة وستمائة ، أخبرنا أبو طاهر السلفي ، أخبرنا محمد وأحمد ابنا عبد الله بن أحمد ، قالا : أخبرنا علي بن محمد الفرضي ، أخبرنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن حكيم ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثني حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : افتتح أبو بكر -رضي الله عنه- ( البقرة ) ، في يوم عيد فطر أو أضحى ، فقلت : يقرأ عشر آيات ، فلما جاوز العشر ، قلنا : يقرأ مائة آية ، حتى قرأها ، فرأيت أشياخ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يميلون هذا حديث صحيح غريب .

                                                                                      قال أبو الحسين بن المنادي وغيره : مات الحافظ أبو حاتم في شعبان ، سنة سبع وسبعين ومائتين وقيل : عاش ثلاثا وثمانين سنة . ولأبي محمد الإيادي الشاعر مرثية طويلة في أبي حاتم ، رواها عنه ابن أبي حاتم ، أولها .

                                                                                      أنفسي ما لك لا تجزعينا وعيني ما لك لا تدمعينا     ألم تسمعي بكسوف العلوم
                                                                                      من شهر شعبان محقا مدينا [ ص: 263 ]     ألم تسمعي خبر المرتضى
                                                                                      أبي حاتم أعلم العالمينا

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية