الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أبو الوقت

                                                                                      الشيخ الإمام الزاهد الخير الصوفي ، شيخ الإسلام ، مسند الآفاق أبو الوقت ، عبد الأول بن الشيخ المحدث المعمر أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق ، السجزي ، ثم الهروي الماليني . [ ص: 304 ] مولده في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة .

                                                                                      وسمع في سنة خمس وستين وأربعمائة من جمال الإسلام أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي " الصحيح " وكتاب الدارمي ، ومنتخب " مسند " عبد بن حميد ببوشنج ، وسمع من أبي عاصم الفضيل بن يحيى ، ومحمد بن أبي مسعود الفارسي ، وأبي يعلى صاعد بن هبة الله ، وبيبى بنت عبد الصمد ، وعبد الرحمن بن محمد بن عفيف حدثوه عن عبد الرحمن بن أبي شريح ، وسمع من أحمد بن أبي نصر كاكو ، وعبد الوهاب بن أحمد الثقفي ، وأحمد بن محمد العاصمي ، ومحمد بن الحسين الفضلويي ، وعبد الرحمن بن أبي عاصم الجوهري ، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري وكان من مريديه ، وأبي عامر محمود بن القاسم الأزدي ، وعبد الله بن عطاء البغاورداني ، وحكيم بن أحمد الإسفراييني وأبي عدنان القاسم بن علي القرشي ، وأبي القاسم عبد الله بن عمر الكلوذاني ، ونصر بن أحمد الحنفي ، وطائفة .

                                                                                      وحدث بخراسان وأصبهان وكرمان وهمذان وبغداد ، وتكاثر عليه الطلبة ، واشتهر حديثه ، وبعد صيته ، وانتهى إليه علو الإسناد .

                                                                                      حدث عنه : ابن عساكر والسمعاني ، وابن الجوزي ، ويوسف بن أحمد الشيرازي ، وارتحل إليه إلى كرمان ، وسفيان بن إبراهيم بن منده ، وأبو ذر سهيل بن محمد البوشنجي ، وأبو الضوء شهاب الشذباني ، وعبد المعز بن محمد الهروي ، والقاضي عبد الجبار بن بندار الهمذاني ، وعبد الجليل بن مندويه ، وأحمد بن عبد الله السلمي العطار ، وعثمان بن علي [ ص: 305 ] الوركاني ، وعثمان بن محمود الأصبهاني ، ومحمد بن عبد الله الفتاح البوشنجي ، ومحمد بن عطية الله الهمذاني ، ومحمد بن محمد بن سرايا الموصلي ، ومحمود بن واثق البيهقي ، ومقرب بن علي الهمذاني ، والفقيه يحيى بن سعد الرازي .

                                                                                      ويوسف بن عمر بن محمد بن عبيد الله بن نظام الملك ، وحماد بن هبة الله الحراني ، وعمر بن طبرزد ، وسعيد بن محمد الرزاز ، وعمر بن محمد الدينوري الصوفي ، ويحيى بن عبد الله بن السهروردي ، ومحمد بن أحمد بن هبة الله الروذراوري ، وأحمد بن ظفر بن هبيرة ، ومحمد بن هبة الله بن مكرم ، ومظفر بن حركها ، وعلي بن يوسف بن صبوخا ، وأحمد بن يوسف بن صرما ، ومحمد بن أبي القاسم الميندي ، وزيد بن يحيى البيع ، وعبد اللطيف بن عسكر ، وعمر بن محمد بن أبي الريان ، وأسعد بن صعلوك ، والنفيس بن كرم ، وأبو جعفر عبد الله بن شريف الرحبة ، ومحمد بن عمر بن خليفة الروباني -بموحدة- ، ومحمد بن هبة الله البيع ، وعبد الله بن إبراهيم الهمذاني الخطيب ، وأبو الحسن علي بن بورنداز وعمر بن أعز السهروردي ، وأبو هريرة محمد بن ليث الوسطاني ، وصاعد بن علي الواعظ ، ومحمد بن المبارك المستعمل ، وأبو علي بن الجواليقي ، ومحمد بن النفيس بن عطاء ، والمهذب بن قنيدة ، وعبد السلام بن سكينة ، وعبد الرحمن بن عتيق بن صيلا ، وأبو الرضى محمد بن عصية ، وعبد السلام الداهري . ، وأبو نصر أحمد بن الحسين النرسي ، وعمر بن كرم ، والحسين بن الزبيدي ، وأخوه الحسن ، وظفر بن سالم البيطار ، وعبد البر بن أبي العلاء العطار ، وإبراهيم بن عبد الرحمن القطيعي ، وعبد الرحمن مولى ابن باقا ، وزكريا العلبي ، وعلي بن روزبه ، [ ص: 306 ] ومحمد بن عبد الواحد المديني ، وأبو الحسن محمد بن أحمد القطيعي ، وأبو المنجى عبد الله بن اللتي ، وأبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز ، وأبو سعد ثابت بن أحمد الخجندي نزيل شيراز وهو آخر من سمع منه موتا بقي إلى سنة 637 وسماعه في الخامسة .

                                                                                      وروى عنه بالإجازة أبو الكرم محمد بن عبد الواحد المتوكلي ، وكريمة بنت عبد الوهاب القرشية .

                                                                                      قال السمعاني : شيخ صالح ، حسن السمت والأخلاق ، متودد متواضع ، سليم الجانب ، استسعد بصحبة الإمام عبد الله الأنصاري ، وخدمه مدة ، وسافر إلى العراق وخوزستان والبصرة ، نزل بغداد برباط البسطامي فيما حكاه لي ، وسمعت منه بهراة ومالين ، وكان صبورا على القراءة ، محبا للرواية ، حدث ب " الصحيح " ، و " مسند " عبد ، والدارمي عدة نوب ، وسمعت أن أباه سماه محمدا ، فسماه عبد الله الأنصاري عبد الأول ، وكناه بأبي الوقت ، ثم قال : الصوفي ابن وقته .

                                                                                      وقال السمعاني في " التحبير " إن والد أبي الوقت أجاز له ، وإن مولده بسجستان سنة عشر وأربعمائة ، وإنه سمع من علي بن بشرى الليثي " مناقب الشافعي " للآبري بفوت ، ثم سكن هراة ، وإنه شيخ صالح معمر ، حرص على سماع الحديث ، وحمل ولده أبا الوقت على عاتقه إلى بوشنج ، وكان عبد الله الأنصاري يكرمه ويراعيه ، مات بمالين في شوال سنة اثنتي عشرة وخمسمائة عاش مائة وثلاث سنين . [ ص: 307 ] وقال زكي الدين البرزالي طاف أبو الوقت العراق وخوزستان ، وحدث بهراة ومالين وبوشنج وكرمان ويزد وأصبهان والكرج وفارس وهمذان ، وقعد بين يديه الحفاظ والوزراء ، وكان عنده كتب وأجزاء ، سمع عليه من لا يحصى ولا يحصر .

                                                                                      وقال ابن الجوزي : كان صبورا على القراءة ، وكان صالحا ، كثير الذكر والتهجد والبكا ، على سمت السلف ، وعزم عام موته على الحج ، وهيأ ما يحتاج إليه ، فمات .

                                                                                      وقال يوسف بن أحمد الشيرازي في " أربعين البلدان " له : لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت ، قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان ، فسلمت عليه ، وقبلته ، وجلست بين يديه ، فقال لي : ما أقدمك هذه البلاد ؟ قلت : كان قصدي إليك ، ومعولي بعد الله عليك ، وقد كتبت ما وقع إلي من حديثك بقلمي ، وسعيت إليك بقدمي ، لأدرك بركة أنفاسك ، وأحظى بعلو إسنادك .

                                                                                      فقال : وفقك الله وإيانا لمرضاته ، وجعل سعينا له ، وقصدنا إليه ، لو كنت عرفتني حق معرفتي ، لما سلمت علي ، ولا جلست بين يدي ، ثم بكى بكاء طويلا ، وأبكى من حضره ، ثم قال : اللهم استرنا بسترك الجميل ، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا . يا ولدي ، تعلم أني رحلت أيضا لسماع " الصحيح " ماشيا مع والدي من هراة إلى الداودي ببوشنج ولي دون عشر سنين .

                                                                                      فكان والدي يضع على يدي حجرين ، ويقول : احملهما . فكنت من خوفه أحفظهما بيدي ، وأمشي وهو يتأملني ، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجرا واحدا ، فألقي ، ويخف [ ص: 308 ] عني ، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي ، فيقول لي : هل عييت ؟ فأخافه ، وأقول : لا . فيقول : لم تقصر في المشي ؟ فأسرع بين يديه ساعة ، ثم أعجز ، فيأخذ الآخر ، فيلقيه ، فأمشي حتى أعطب ، فحينئذ كان يأخذني ويحملني .

                                                                                      وكنا نلتقي جماعة الفلاحين وغيرهم ، فيقولون : يا شيخ عيسى ، ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج . فيقول : معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، بل نمشي ، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالا لحديث رسول الله ورجاء ثوابه . فكان ثمرة ذلك من حسن نيته أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره ، ولم يبق من أقراني أحد سواي ، حتى صارت الوفود ترحل إلي من الأمصار .

                                                                                      ثم أشار إلى صاحبنا عبد الباقي بن عبد الجبار الهروي أن يقدم لي حلواء ، فقلت : يا سيدي ، قراءتي لجزء أبي الجهم أحب إلي من أكل الحلواء . فتبسم ، وقال : إذا دخل الطعام خرج الكلام . وقدم لنا صحنا فيه حلواء الفانيذ ، فأكلنا ، وأخرجت الجزء ، وسألته إحضار الأصل ، فأحضره ، وقال : لا تخف ولا تحرص ، فإني قد قبرت ممن سمع علي خلقا كثيرا ، فسل الله السلامة .

                                                                                      فقرأت الجزء ، وسررت به ، ويسر الله سماع " الصحيح " وغيره مرارا ، ولم أزل في صحبته وخدمته إلى أن توفي ببغداد في ليلة الثلاثاء من ذي الحجة .

                                                                                      قلت : وبيض لليوم وهو سادس الشهر- قال : ودفناه بالشونيزية . قال لي : تدفنني تحت أقدام مشايخنا بالشونيزية . ولما احتضر سندته إلى صدري ، وكان مستهترا بالذكر ، فدخل عليه محمد بن القاسم الصوفي ، وأكب [ ص: 309 ] عليه ، وقال : يا سيدي ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فرفع طرفه إليه ، وتلا : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فدهش إليه هو ومن حضر من الأصحاب ، ولم يزل يقرأ حتى ختم السورة ، وقال : الله الله الله ، وتوفي وهو جالس على السجادة .

                                                                                      وقال أبو الفرج بن الجوزي حدثني محمد بن الحسين التكريتي الصوفي قال : أسندته إلي ، وكان آخر كلمة قالها : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ومات .

                                                                                      قلت : قدم بغداد في شوال ، فأقام بها سنة وشهرا ، وكان معه أصوله ، فحدث منها .

                                                                                      قال ابن النجار : كان الوزير أبو المظفر بن هبيرة قد استدعاه ، ونفذ إليه نفقة ، ثم أنزله عنده ، وأكرمه ، وأحضره في مجلسه ، وسمع عليه " الصحيح " في مجلس عام أذن فيه للناس ، فكان الجمع يفوت الإحصاء ، ثم قرأه عليه أبو محمد بن الخشاب بالنظامية ، وحضر خلق كثير دون هؤلاء ، [ ص: 310 ] وقرئ عليه بجامع المنصور ، وسمعه جمع جم ، وآخر من قرأه عليه شيخنا ابن الأخضر وكان شيخا صدوقا أمينا ، من مشايخ الصوفية ومحاسنهم ، ذا ورع وعبادة مع علو سنه ، وله أصول حسنة ، وسماعات صحيحة .

                                                                                      ثم قال : قرأت في كتاب أحمد بن صالح الجيلي : توفي شيخنا أبو الوقت ليلة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة نصف الليل ، وصلي عليه ضاحي نهار اليوم برباط فيروز الذي كان نازلا فيه ، ثم صلي عليه بالجامع ، وأمنا الشيخ عبد القادر الجيلي وكان الجمع متوفرا ، وكنت يوم خامس الشهر عنده ، وقرأت عليه الحديث إلى وقت الظهر ، وكان مستقيم الرأي ، حاضر الذهن ، ولم نر في سنه مثل سنده ، وكان شيخا صالحا سنيا ، قارئا للقرآن ، قد صحب الأشياخ ، وعاش حتى ألحق الصغار بالكبار ، ورأى من رئاسة التحديث ما لم يره أحد من أبناء جنسه ، وسمع منه من لم يرغب في الرواية قبله ، وكان آخر من روى في الدنيا عن الداودي وبقية أشياخه ، وقرأت الكتب التي معه كلها عليه والأجزاء مرات في عدة مواضع ، وسمعها منه ألوف من الناس ، وصل بغداد في حادي عشر شوال سنة اثنتين وخمسين ، صحب شيخ الإسلام نيفا وعشرين سنة .

                                                                                      أنبأنا طائفة عن ابن النجار قال : أنشدنا داود بن معمر بأصبهان ، أنشدنا محمد بن الفضل العقيلي لنفسه في سنة إحدى وخمسين : [ ص: 311 ]

                                                                                      أتاكم الشيخ أبو الوقت بأحسن الأحبار عن ثبت


                                                                                      طوى إليكم ناشرا علمه     مراحل الأبرق والخبت


                                                                                      ألحق بالأشياخ أطفالكم     وقد رمى الحاسد بالكبت


                                                                                      فمنة الشيخ بما قد روى     كمنة الغيث على النبت


                                                                                      بارك فيه الله من حامل     خلاصة الفقه إلى المفتي


                                                                                      انتهزوا الفرصة يا سادتي     وحصلوا الإسناد في الوقت


                                                                                      فإن من فوت ما عنده     يصير ذا الحسرة والمقت

                                                                                      وفيها مات الحافظ عبد الجليل بن محمد كوتاه الأصبهاني وعلي بن عساكر بن سرور الخشاب بدمشق ، والإمام أبو حفص عمر بن أحمد بن الصفار النيسابوري وأبو الفتح المبارك بن أحمد بن زريق الواسطي الحداد المقرئ وأبو المحاسن مسعود بن محمد الغانمي الهروي .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية