الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 40 ] أبو العلاء الهمذاني

                                                                                      الإمام الحافظ المقرئ العلامة شيخ الإسلام أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل بن سلمة بن عثكل بن إسحاق بن حنبل الهمذاني العطار ، شيخ همذان بلا مدافعة .

                                                                                      مولده في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة .

                                                                                      وأول سماعه في سنة خمس وتسعين ، وبعدها سمع من عبد الرحمن بن حمد الدوني ، وخلق بهمذان . وسمع ببغداد من أبي القاسم بن بيان ، وأبي علي بن نبهان ، وأبي علي بن المهدي ، وطبقتهم . وبأصبهان من أبي علي الحداد ، ومحمود الأشقر ، وخلق . وقرأ بالروايات الكثيرة على الحداد ، وعلى أبي عبد الله البارع ، وأبي بكر المزرفي ، وجماعة .

                                                                                      وارتحل إلى خراسان ، فسمع من محمد بن الفضل الفراوي " صحيح مسلم " ، وما زال يسمع ويرحل ويسمع أولاده . وآخر قدماته إلى بغداد ، وكان بعد الأربعين ، فقرأ لأولاده على أبي الفضل الأرموي ، وابن ناصر وابن الزاغوني ، فحدث إذ ذاك بها وأقرأ . [ ص: 41 ] فتلا عليه بالعشرة أبو أحمد عبد الوهاب ابن سكينة .

                                                                                      وروى عنه هو وأبو المواهب ابن صصرى ، وعبد القادر بن عبد الله الرهاوي ، ويوسف بن أحمد الشيرازي ، ومحمد بن محمود الحمامي ، وعتيق بن بدل المكي ، وأولاده : أحمد ، وعبد البر ، وفاطمة ، وأسباطه : القاضي علي ، ومحمد ، وعبد الحميد ، بنو عبد الرشيد بن علي بن بنيمان ، وآخرون .

                                                                                      وروى عنه بالإجازة أبو الحسن بن المقير ، وغيره .

                                                                                      قال أبو سعد السمعاني : هو حافظ متقن ، ومقرئ فاضل ، حسن السيرة ، جميل الأمر ، مرضي الطريقة ، عزيز النفس ، سخي بما يملكه ، مكرم للغرباء ، يعرف الحديث والقراءات والآداب معرفة حسنة ، سمعت منه بهمذان .

                                                                                      وقال الحافظ عبد القادر : شيخنا أشهر من أن يعرف ; تعذر وجود مثله من أعصار كثيرة ، على ما بلغنا من سير العلماء والمشايخ ، أربى على أهل زمانه في كثرة السماعات ، مع تحصيل أصول ما سمع ، وجودة النسخ ، وإتقان ما كتبه بخطه ; فإنه ما كان يكتب شيئا إلا منقوطا معربا ، وأول سماعه من الدوني سنة 495 وبرع على حفاظ عصره في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى والقصص والسير .

                                                                                      [ ص: 42 ] ولقد كان يوما في مجلسه ، وجاءته فتوى في أمر عثمان -رضي الله عنه- فأخذها ، وكتب فيها من حفظه ، ونحن جلوس ، درجا طويلا ، ذكر فيه نسبه ، ومولده ، ووفاته ، وأولاده ، وما قيل فيه ، إلى غير ذلك .

                                                                                      وله التصانيف في الحديث ، وفي الزهد والرقائق ، وقد صنف كتاب : " زاد المسافر " في خمسين مجلدا ، وكان إماما في الحديث وعلومه .

                                                                                      وحصل من القراءات ما إنه صنف فيها العشرة والمفردات ، وصنف في الوقف والابتداء ، وفي التجويد ، وكتابا في ماءات القرآن ، وفي العدد ، وكتابا في معرفة القراء في نحو من عشرين مجلدا ، استحسنت تصانيفه ، وكتبت ، ونقلت إلى خوارزم وإلى الشام ، وبرع عنده جماعة كثيرة في القراءات . وكان إذا جرى ذكر القراء يقول : فلان مات عام كذا وكذا ، ومات فلان في سنة كذا وكذا ، وفلان يعلو إسناده على فلان بكذا .

                                                                                      وكان عالما إماما في النحو واللغة . سمعت أن من جملة ما حفظ كتاب " الجمهرة " . وخرج له تلامذة في العربية أئمة يقرءون بهمذان ، وبعض أصحابه رأيته ، فكان من محفوظاته كتاب " الغريبين " لأبي عبيد الهروي ، إلى أن قال : وكان مهينا للمال ، باع جميع ما ورثه ، وكان من أبناء التجار ، فأنفقه في طلب العلم ، حتى سافر إلى بغداد إلى أصبهان مرات ماشيا يحمل كتبه على ظهره ، سمعته يقول : كنت أبيت ببغداد في المساجد ، وآكل خبز الدخن .

                                                                                      قال : وسمعت أبا الفضل بن بنيمان الأديب يقول : رأيت أبا العلاء العطار في مسجد من مساجد بغداد يكتب وهو قائم ; لأن السراج كان عاليا ، [ ص: 43 ] إلى أن قال : فعظم شأنه في القلوب ; حتى إن كان ليمر في همذان فلا يبقى أحد رآه إلا قام ، ودعا له ; حتى الصبيان واليهود ، وربما كان يمضي إلى بلدة مشكان يصلي بها الجمعة ، فيتلقاه أهلها خارج البلد ; المسلمون على حدة ، واليهود على حدة ، يدعون له ، إلى أن يدخل البلد .

                                                                                      وكان يفتح عليه من الدنيا جمل ، فلم يدخرها ، بل ينفقها على تلامذته ، وكان عليه رسوم لأقوام ، وما كان يبرح عليه ألف دينار همذانية أو أكثر من الدين ، مع كثرة ما كان يفتح عليه .

                                                                                      وكان يطلب لأصحابه من الناس ، ويعز أصحابه ومن يلوذ به ، ولا يحضر دعوة حتى يحضر جماعة أصحابه ، وكان لا يأكل من أموال الظلمة ، ولا قبل منهم مدرسة قط ولا رباطا ، وإنما كان يقرئ في داره ، ونحن في مسجده سكان .

                                                                                      وكان يقرئ نصف نهاره الحديث ، ونصفه القرآن والعلم ، ولا يغشى السلاطين ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يمكن أحدا في محلته أن يفعل منكرا ، ولا سماعا ، وكان ينزل كل إنسان منزلته ، حتى تألفت القلوب على محبته وحسن الذكر له في الآفاق البعيدة ، حتى أهل خوارزم الذين هم معتزلة مع شدته في الحنبلة .

                                                                                      وكان حسن الصلاة لم أر أحدا من مشايخنا أحسن صلاة منه ، وكان متشددا في أمر الطهارة ; لا يدع أحدا يمس مداسه ، وكانت ثيابه قصارا ، وأكمامه قصارا ، وعمامته نحو سبعة أذرع .

                                                                                      [ ص: 44 ] وكانت السنة شعاره ودثاره اعتقادا وفعلا ، بحيث إنه كان [ إذا دخل ] مجلسه رجل ، فقدم رجله اليسرى كلفه أن يرجع ، فيقدم اليمنى ، ولا يمس الأجزاء إلا على وضوء ، ولا يدع شيئا قط إلا مستقبل القبلة تعظيما لها .

                                                                                      قلت : هذا لم يرد فيه ثواب .

                                                                                      إلى أن قال : سمعت من أثق به عن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي أنه قال في الحافظ أبي العلاء ، لما دخل نيسابور : ما دخل نيسابور مثلك .

                                                                                      وسمعت الحافظ أبا القاسم علي بن الحسن يقول ، وذكر رجلا من أصحابه رحل : إن رجع ولم يلق الحافظ أبا العلاء ضاعت رحلته .

                                                                                      قلت : كان أبو العلاء الحافظ في القراءات أكبر منه في الحديث ، مع كونه من أعيان أئمة الحديث ، له عدة رحلات إلى بغداد وأصبهان ونيسابور .

                                                                                      أخبرنا أبو سعية صبيح الأسود أخبرنا أبو الحسن بن المقير ، [ ص: 45 ] أخبرنا أبو العلاء الهمذاني مكاتبة ، أخبرنا أبو علي المقرئ ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا أحمد بن خلاد ، حدثنا محمد بن غالب ، حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد ، أو عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله ؛ إمام عادل . . وذكر الحديث .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن إسحاق ، أخبرنا نصر بن عبد الرزاق ، أنبأنا الحافظ أبو العلاء الهمذاني ، أخبرنا أبو علي محمد بن محمد الهاشمي ، أخبرنا عبد الله بن عمر ، أخبرنا أبو بحر محمد بن الحسن ، حدثنا علي بن الفضل الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا أبو مالك الأشجعي سعد بن طارق ، عن ربعي عن حذيفة ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : المعروف كله صدقة ، وإن آخر ما تعلق به الجاهلية من كلام النبوة : إذا لم تستحي فافعل ما شئت .

                                                                                      [ ص: 46 ] توفي أبو العلاء الهمذاني بها في جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة وله نيف وثمانون سنة .

                                                                                      وفيها : مات صاحب الشام الملك نور الدين محمود بن زنكي التركي عن بضع وخمسين سنة ، والمسند أبو عبد الله أحمد بن علي بن المعمر العلوي النقيب ببغداد ، وأبو الحسن دهبل بن علي بن كاره الحريمي ، وشيخ النحو أبو محمد سعيد بن المبارك ابن الدهان البغدادي ، ومسند المغرب أبو الحسن علي بن أحمد بن حنين الكناني بفاس عن ثلاث وتسعين سنة ، والمسند أبو محمد عبد الله بن أحمد بن هبة الله بن محمد ابن النرسي ، وأبو إسحاق بن قرقول الحمزي ، وأبو تميم سلمان بن علي الرحبي الخباز ، وعبد النبي بن المهدي الخارجي المتغلب على اليمن ، والفقيه عمارة بن علي اليمني شاعر وقته وأبو شجاع محمد بن الحسين المادرائي الحاجب .

                                                                                      وفي أولاد الحافظ أبي العلاء جماعة نجباء ; أصغرهم الحافظ الرحال [ ص: 47 ] مفيد همذان أبو بكر محمد بن الحسن ، سمع من أبي الوقت والباغبان وبأصبهان من أبي رشيد عبد الله بن عمر ، والحافظ أبي موسى وقرأ كثيرا وحصل الأصول ، روى عنه أبو الحسن ابن القطيعي مات كهلا سنة خمس وستمائة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية