الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 96 ] وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها

عطف على جملة قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي إلى آخرها ؛ لأن فيها فخذ ما آتيتك والذي آتاه هو ألواح الشريعة ، أو هو المقصود من قوله ما آتيتك .

والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد ، إن كان ما آتيتك مرادا به الألواح التي أعطيها موسى في المناجاة فساغ أن تعرف تعريف العهد كأنه قيل : فخذ ألواحا آتيتكها ، ثم قيل : وكتبنا له في الألواح ، وإذا كان ما آتيتك مرادا به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني ، أي : وكتبنا له في الألواح معينة من جنس الألواح .

و ( الألواح ) جمع لوح بفتح اللام وهو قطعة مربعة من الخشب ، وكانوا يكتبون على الألواح ، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة ( وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى ) .

وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحا مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة ، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج ، فتسميتها الألواح لأنها على صورة الألواح ، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى ، وكانا لوحين ، كما في التوراة ، فإطلاق الجمع عليها هنا : إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما ، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج فكانا بمنزلة أربعة ألواح .

وأسندت الكتابة إلى الله - تعالى - لأنها كانت مكتوبة نقشا في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله - تعالى - ، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين ، كما أسند الكلام إلى الله في قوله ( وبكلامي ) .

[ ص: 97 ] و ( من ) التي في قوله ( من كل شيء ) تبعيضية متعلقة ( بكتبنا ) ومفعول ( كتبنا ) محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتوبا ، ويجوز جعل ( من ) اسما بمعنى بعض فيكون منصوبا على المفعول به بكتبنا ، أي كتبنا له بعضا من كل شيء ، وهذا كقوله - تعالى - في سورة النمل وأوتينا من كل شيء .

( وكل شيء ) عام عموما عرفيا أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله - تعالى - ما فرطنا في الكتاب من شيء على أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى طريقة قوله - تعالى - اليوم أكملت لكم دينكم أي أصوله .

والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى - عليه السلام - وهي ما في الإصحاح 20 من سفر الخروج ونصها : " أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع تمثالا منحوتا ، ولا صورة ما مما في السماء من فوق ، وما في الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهن ولا تعبدهن ؛ لأني أنا الرب . إلهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي ، واضع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي . لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا . اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك ، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السما والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ، أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك . لا تقتل . لا تزن . لا تسرق . لا تشهد على قريبك شهادة زور . لا تشته بيت قريبك . لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك ا ه . " واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر ، وبالكلمات العشر أي الجمل العشر .

وقد فصلت في الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج ، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا [ ص: 98 ] ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين أن الألواح لم تكتب فيها إلا الكلمات العشر ، التي بالفقرات السبع عشرة منه ، وقوله هنا ( موعظة وتفصيلا ) يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر .

والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع ، مغفول عنه ، وقد تقدم عند قوله - تعالى - فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف في سورة البقرة ، وقوله فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء ، وسيجيء قوله والموعظة الحسنة في آخر سورة النحل .

والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها .

وانتصب ( موعظة ) على الحال من ( كل شيء ) ، أو على البدل من ( من ) إذا كانت اسما - إذا كان ابتداء التفصيل قد عقب كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك .

ولك أن تجعل ( موعظة ) و ( تفصيلا ) حالين من الضمير المرفوع في قوله وكتبنا له أي واعظين ومفصلين ، فـ ( موعظة ) حال مقارنة وتفصيلا حال مقدرة ، وأما جعلهما بدلين من قوله من كل شيء فلا يستقيم بالنسبة لقوله وتفصيلا .

وقوله ( فخذها ) يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى ، ولما لم يقع فيما وليته ما يصلح لأن يتفرع عنه الأمر بأخذها بقوة . تعين أن يكون قوله فخذها بدلا من قوله فخذ ما آتيتك بدل اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق ، وقد اقتضاه العود إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتماما لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين ، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض ، ولولا إعادة فخذها لكان ما بين قوله من الشاكرين وقوله وأمر قومك يأخذوا اعتراضا على بابه ولما اقتضى المقام هذا الفصل ، وإعادة الأمر بالأخذ ، اقتضى حسن ذلك أن يكون [ ص: 99 ] في الإعادة زيادة ، فأخر مقيد الأخذ ، وهو كونه بقوة ، عن التعلق بالأمر الأول ، وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول ، فليس قوله فخذها بتأكيد ، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن .

ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ ، فيكون توكيدا لفظيا ، ويكون تأخير القيد تحسينا للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة ، ويكون الاعتراض قد وقع بين التوكيد والمؤكد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به .

والضمير المؤنث في قوله فخذها عائد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله وكتبنا له في الألواح . والمقول لموسى هو مرجع الضمير . وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله ( ما آتيتك ) وفي هذا ترجيح كون ماصدق ما آتيتك هو ( الألواح ) ، ومن جعلوا ماصدق ( ما آتيتك ) الرسالة والكلام جعلوا الفاء عاطفة لقول محذوف على جملة ( وكتبنا ) والتقدير عندهم : وكتبنا فقلنا خذها بقوة ، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم .

والأخذ : تناول الشيء ، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ .

والباء في قوله بقوة للمصاحبة .

والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتى له بها أن يعمل ما يشق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قوة اليدين على الصنع الشديد ، والرجلين على المشي الطويل ، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة . وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس ، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم : قوة العقل .

وإطلاق اسم القوى على العقل وفيما أنشد ثعلب

وصاحبين حازما قواهما نبهت والرقاد قد علاهما     إلى أمونين فعدياهـمـا

[ ص: 100 ] وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة ، والواهمة ، والمفكرة ، والمخيلة ، والحس المشترك .

فيقال : فرس قوي ، وجمل قوي على الحقيقة ، ويقال : عود قوي ، إذا كان عسير الانكسار ، وأس قوي ، إذا كان لا ينخسف بما يبنى عليه من جدار ثقيل ، إطلاقا قريبا من الحقيقة ، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشد منها في بعض آخر ، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل مما هي حالة فيه ، ولما كان من لوازم القوة أن قدرة صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد ، والأعمال عليه أيسر ، شاع إطلاقها على الوسائل التي يستعين بها المرء على تذييل المصاعب مثل السلاح والعتاد ، والمال ، والجاه ، وهو إطلاق كنائي قال - تعالى - قالوا نحن أولو قوة في سورة النمل .

ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وصف الله - تعالى - باسم القوي أي الكامل القدرة قال - تعالى - إن الله قوي شديد العقاب في سورة الأنفال .

والقوة هنا في قوله ( فخذها بقوة ) تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح ، بمنتهى الجد والحرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده . ومنه قوله - تعالى - يا يحيى خذ الكتاب بقوة في سورة مريم .

وهذا الأخذ هو حظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها ، فالله المشرع ، والرسول المنفذ ، وأصحابه وولاة الأمور هم أعوان على التنفيذ . وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه ، وهو وهم فيما سوى ذلك كسائر الأمة .

فقوله وأمر قومك يأخذوا بأحسنها تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها . فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق ، يقال : أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه ، كقوله وأخذ برأس أخيه وقوله لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي . ولم يعد فعل الأخذ بالباء في قوله فخذها لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل ، فأن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة .

[ ص: 101 ] وجزم يأخذوا جوابا لقوله ( وأمر ) تحقيقا لحصول امتثالهم عندما يأمرهم .

و ( بأحسنها ) وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحسن ، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام ، أي : بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها ، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن ، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له ، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها ، ولأن الشريعة مفصل فيها مراتب الأعمال ، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضل من بعض كالمندوب بالنسبة إلى المباح ، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة . كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكورا في الشريعة ، فكان ذلك من جملة الأخذ بها ، فقرائن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة ، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية نظير قوله - تعالى - واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم في سورة الزمر . والمعنى : وأمر قومك يأخذوا بما فيها لحسنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية