الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ التعارض بين القول والفعل ] وأما الثاني : وهو التعارض بين القول والفعل : ويتحصل من أفراده [ ص: 49 ] ستون صورة ، وبيانه بانقسامها أولا إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن يعلم تقدم القول على الفعل . وثانيها : أن يعلم تقدم الفعل على القول . وثالثها : أن يجهل التاريخ ، وعلى القولين الأولين إما أن يتعقب الثاني الأول بحيث لا يتخلل بينهما زمان ، أو يتراخى أحدهما عن الآخر ، وهذان قسمان آخران ، وعلى الثلاثة الأول : إما أن يكون القول عاما للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، أو خاصا به ، أوخاصا بهم . والفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صلى الله عليه وسلم ووجوب تأسي الأمة به فيه ، وإما ألا يدل دليل على واحد منهما ، وإما أن يقوم دليل على التكرار دون التأسي أو العكس . هذا حصر التقسيم فيها ، وبيان ارتقائها إلى العدد المتقدم ، أنك إذا ضربت الأقسام الأربعة التي يعلم بها تعقب الفعل للقول أو تراخيه عنه ، وتعقب القول للفعل أو تراخيه عنه في الثلاثة التي ينقسم إليها من كونه يعم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يخصه ، أو يخص الأمة حصل فيها اثنا عشر قسما ، ومجهول الحال من التقدم والتأخر بالنسبة إلى عموم القول وخصوصه [ له ثلاثة ] أيضا . فهذه خمسة عشر قسما ، تضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي أو عدمها أو وجود أحدهما دون الآخر ، فينتهي إلى الستين صورة من غير تداخل ، وأكثرها لا يوجد في السنة ، والحكم فيها على وجه التفصيل يختلف ، ويطول الكلام فيه ، ولا توجد هذه الستون مجموعة هكذا في كتاب أحد من الأصوليين .

                                                      وذكر ابن الخطيب في المحصول منها خمسة عشر ، وهو أن المتأخر من القول أو الفعل إما أن يتعقب المتقدم أو يتراخى عنه ، فهذه أربعة تضرب [ ص: 50 ] في الثلاثة التي ينقسم القول إليها من كونه عاما لنا وله ، أو خاصا به ، أو خاصا بنا ، فيصير اثني عشر قسما ، والمجهول الحال من المتقدم والمتأخر ثلاثة أخرى بالنسبة إلى عموم القول وخصوصه أيضا . وذكر الآمدي في الإحكام انقسام الفعل إلى الأربعة ، وهو إما أن يدل دليل على تكرره وتأسي الأمة أو لا ، أو يدل على التكرار دون التأسي أو عكسه ، فإذا جمعت بين الكلامين وضربت الخمس عشرة صورة في الأربعة حصل ستون ، وقد ذكر خلافا في الموضعين ، وهو داخل في هذه الصور الستين : أحدهما : أن يكون القول عاما بالنسبة إلى المخاطبين ، وقد فعله عليه السلام مطلقا ، وورد في بعض صور العموم ، كنهيه عن الصلاة بعد العصر ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر ، ومداومته عليها بعد ذلك ، وكنهيه عن استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة ، ثم فعل ذلك في البيوت ، ففي مثل هذه ثلاثة أقوال : أحدها : وهو قول الجمهور تخصيص العموم بفعله في الحالة التي ورد فيها ، وجعلوا الفعل أحد الأنواع التي خصص بها العموم ، وسواء تقدم الفعل أو تأخر القول الراجح ، وبني العام على الخاص .

                                                      وقال الأستاذ أبو منصور : إن تقدم الفعل دل القول على نسخه عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه ، وليس بنسخ عند المانعين له . والثاني : جعل الفعل خاصا به عليه السلام ، وإمضاء القول على عمومه ، ونقله صاحب " المصادر " عن عبد الجبار ، قال : ونسبه إلى الشافعي ; لأنه قال : وعلى جعل الشافعي قوله عليه السلام : { من قرن حجا إلى عمرة فليطف لهما طوافا واحدا } أولى مما روي أنه عليه السلام طاف طوافين ، لما كان الأول قولا ، والثاني : حكاية فعل . [ ص: 51 ]

                                                      والثالث : التوقف ، كدليلين تعارضا في الظاهر ويطلب وجه الترجيح ، وجعل صاحب " المصادر " الخلاف فيما إذا ورد قول مجمل ، ثم صدر بعده فعل يصح أن يكون بيانا لذلك المجمل . وجعل بعضهم محل الخلاف ما إذا لم يقم دليل خاص على تأسي الأمة في هذا الفعل المخصوص ، فإن دل عليه دليل خاص كان ناسخا للقول إن تأخر ، وإن جهل التاريخ ففيه ما يأتي من الخلاف . والموضع الثاني : أن لا يكون القول من صيغ العموم ، ويجهل التاريخ في تقدمه على الفعل أو تأخره عنه . كقوله لعمر بن أبي سلمة : ( { كل مما يليك } ) وتتبعه الدباء في جوانب الصحفة . وكنهيه عن الشرب قائما ، وعن الاستلقاء ، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى ، وثبت عنه أنه فعل ذلك فأطلق جماعة من المصنفين في مثل هذا ثلاثة أقوال : أحدها : وهو مذهب الجمهور تقديم القول لقوته بالصيغة ، وأنه حجة بنفسه وظاهر كلام ابن برهان أنه المذهب ، وجزم به إلكيا . قال : لأن فعله لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل ، وحق قوله أن يتعداه ، " فإذا اجتمعا تمسكنا بقوله ، وحملنا فعله على أنه مخصوص به ، وكذا جزم به الأستاذ أبو منصور ، وصححه الشيخ في " اللمع " ، والإمام في " المحصول " ، والآمدي في " الأحكام " ، والقرطبي وابن حزم الظاهري . [ ص: 52 ]

                                                      والثاني : تقديم الفعل لعدم الاحتمال فيه ، ونقل عن اختيار القاضي أبي الطيب . والثالث : أنهما شيئان ، لا يترجح أحدهما على الآخر إلا بدليل ، وحكاه ابن القشيري عن القاضي أبي بكر ، ونصره . واختاره ابن السمعاني في " القواطع " . ومنهم من جعل محل هذه الأقوال فيما إذا تعارض القول والفعل في بيان مجمل ، دون ما إذا كانا مبتدأين ، وبه صرح الشيخ في " اللمع " ، وابن القشيري في كتابه والغزالي في " المستصفى " . وعكس القرطبي ، فجعل محل الخلاف فيما إذا لم تقم قرينة تدل على أنه بيان ، وجعل الآمدي وابن الحاجب محل هذا الخلاف أيضا فيما إذا دل الدليل الخاص على تكرر هذا الفعل في حقه ، وعلى تأسي الأمة به ، وعلى أن القول المعارض له خاص به أو بالأمة ، وجهل التاريخ في تقديم أحدهما على الآخر . واختار الآمدي تقديم القول ، واختاره ابن الحاجب إذا كان القول خاصا بالأمة ، وأما إذا كان خاصا بالنبي عليه السلام فالوقف . وللفقهاء في مثل ما مثلنا به طريقة أخرى لم يذكرها أهل الأصول هنا ، وهو حمل الأمر على الندب والنهي على الكراهة ، وجعل الفعل بيانا لذلك ، أو حمل كل من القول والفعل على صورة خاصة لا تجيء في الأخرى كالاستلقاء منهي عنه إذا بدت منه العورة ، وجائز إذا لم تبد منه إلى غير ذلك من الصور التي يمكن الجمع فيها بين القول والفعل ، ويخرج من هذا تخصيص الخلاف بحالة تعذر إمكان الجمع ، فإنه الذي يقع فيها التعارض .

                                                      واعلم أن هذا الخلاف إنما يتجه من القائلين بحمل فعله على الوجوب ، فأما القائلون بحمله على الإباحة والوقف ، فلا شك عندهم في تقديم القول [ ص: 53 ] مطلقا ، وقال الأستاذ أبو منصور وإلكيا : إن تقدم القول ومضى وقت وجوبه ، ولم يفعله ، أو فعل ضده علمنا نسخه ، كتركه قتل شارب الخمر في الرابعة بعد أمره به . وإن فعل ما يضاده قبل وقت وجوبه دل على نسخ حكم قوله عند من أجاز نسخ الشيء قبل مجيء وقته ، ولم ينسخ عند من منعه ، وإن قدم الفعل كان القول ناسخا له . وقد استشكل جعل الفعل ناسخا ; لأن شرط الناسخ مساواته للمنسوخ ، أو أقوى ، والفعل أضعف ، وأجاب القرافي بأن المراد المساواة باعتبار السند لا غير ، وذلك لا يناقض كونه فعلا ، ولهذا يجب أن يفصل في هذه المسألة فيقال : القول والفعل إن كان في زمنه عليه السلام وبحضرته ، فقد استويا ، وإن نقلا إلينا تعين أن لا يقضى بالنسخ إلا بعد استواء كل واحد منهما ، فإن كان أحدهما متواترا والآخر آحادا منعنا نسخ الآحاد للمتواتر . قال : وهذا لا بد منه ، ثم قال الأستاذ هذا كله فيما إذا وقع التعارض بين القول والفعل الصادر منه عليه السلام فأما القول من القرآن والفعل من النبي عليه السلام إذا تعارضا ، فإنه يحمل الفعل على خصائصه به ، ولا يجوز نسخ القرآن بفعله ; لأنه لا يجوز عندنا نسخ القرآن بالسنة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية