الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم بالقسامة فيمن لم يعرف قاتله

ثبت في " الصحيحين " : أنه صلى الله عليه وسلم حكم بها بين الأنصار واليهود ، وقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : ( أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ) وقال [ ص: 10 ] البخاري : " وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " ، فقالوا : أمر لم نشهده ولم نره ، فقال : " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين " ، فقالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده .

وفي لفظ : ( ويقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته إليه ) ، واختلف لفظ الأحاديث الصحيحة في محل الدية ، ففي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، وفي بعضها وداه من إبل الصدقة .

وفي " سنن أبي داود " : أنه صلى الله عليه وسلم ألقى ديته على اليهود ، لأنه وجد بينهم .

وفي " مصنف عبد الرزاق " : أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بيهود ، فأبوا أن يحلفوا ، فرد القسامة على الأنصار ، فأبوا أن يحلفوا فجعل عقله على يهود .

وفي " سنن النسائي " : فجعل عقله على اليهود ، وأعانهم ببعضها ، وقد تضمنت هذه الحكومة أمورا :

منها : الحكم بالقسامة ، وأنها من دين الله وشرعه .

[ ص: 11 ] ومنها : القتل بها لقوله : ( فيدفع برمته إليه ) ، وقوله في لفظ آخر ( وتستحقون دم صاحبكم ) فظاهر القرآن والسنة القتل بأيمان الزوج الملاعن وأيمان الأولياء في القسامة ، وهو مذهب أهل المدينة . وأما أهل العراق ، فلا يقتلون في واحد منهما ، وأحمد يقتل في القسامة دون اللعان ، والشافعي عكسه .

ومنها : أنه يبدأ بأيمان المدعين في القسامة بخلاف غيرها من الدعاوى .

ومنها : أن أهل الذمة إذا منعوا حقا عليهم ، انتقض عهدهم لقوله صلى الله عليه وسلم : إما أن تدوه ، وإما أن تأذنوا بحرب .

ومنها : أن المدعى عليه إذا بعد عن مجلس الحكم ، كتب إليه ، ولم يشخصه .

ومنها : جواز العمل والحكم بكتاب القاضي وإن لم يشهد عليه .

ومنها : القضاء على الغائب .

ومنها : أنه لا يكتفى في القسامة بأقل من خمسين إذا وجدوا .

ومنها : الحكم على أهل الذمة بحكم الإسلام ، وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكم بينهم وبين المسلمين .

ومنها : - وهو الذي أشكل على كثير من الناس - إعطاؤه الدية من إبل الصدقة ، وقد ظن بعض الناس أن ذلك من سهم الغارمين ، وهذا لا يصح ، فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة ، وظن بعضهم أن ذلك مما فضل من الصدقة عن أهلها ، فللإمام أن يصرفه في المصالح ، وهذا أقرب من الأول ، وأقرب منه : أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، واقترض الدية من إبل الصدقة ، ويدل عليه : " فوداه من عنده " وأقرب من هذا كله أن يقال : لما تحملها النبي صلى الله عليه وسلم لإصلاح ذات البين بين الطائفتين ، كان حكمها حكم القضاء على الغارم لما غرمه لإصلاح ذات البين ، ولعل هذا مراد من قال : إنه قضاها من سهم الغارمين ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها [ ص: 12 ] لنفسه شيئا ، فإن الصدقة لا تحل له ، ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين . والله أعلم .

فإن قيل : فكيف تصنعون بقوله " فجعل عقله على اليهود " ؟ فيقال : هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفية جعله عليهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيل ، أو يأذنوا بحرب ، كان هذا كالإلزام لهم بالدية ، ولكن الذي حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا ، وحلفوا على ذلك ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، حفظوا زيادة على ذلك ، فهم أولى بالتقديم .

فإن قيل : فكيف تصنعون برواية النسائي : " أنه قسمها على اليهود ، وأعانهم ببعضها " ؟ قيل : هذا ليس بمحفوظ قطعا ، فإن الدية لا تلزم المدعى عليهم بمجرد دعوى أولياء القتيل ، بل لا بد من إقرار أو بينة ، أو أيمان المدعين ، ولم يوجد هنا شيء من ذلك ، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم أيمان القسامة على المدعين ، فأبوا أن يحلفوا ، فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية