الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ مثل مما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات ]

وجمعتم بين ما فرق الله بينه من الأعضاء الطاهرة والأعضاء النجسة ، فنجستم الماء الذي يلاقي هذه وهذه عند رفع الحدث ، وفرقتم بين ما جمع الله بينه من الوضوء والتيمم [ ص: 220 ]

فقلتم : يصح أحدهما بلا نية دون الآخر ، وجمعتم بين ما فرق الله بينهما من الشعور والأعضاء فنجستم كليهما بالموت ، وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من سباع البهائم فنجستم منها الكلب والخنزير دون سائرها ، وجمعتم بين ما فرق الله بينه وهو الناسي والعامد والمخطئ والذاكر والعالم والجاهل ، فإنه - سبحانه - فرق بينهم في الإثم فجمعتم بينهم في الحكم في كثير من المواضع ، كمن صلى بالنجاسة ناسيا أو عامدا .

وكمن فعل المحلوف عليه ناسيا أو عامدا ، وكمن تطيب في إحرامه أو قلم ظفره أو حلق شعره ناسيا أو عامدا فسويتم بينهما ، وفرقتم بين ما جمع الله بينه من الجاهل والناسي فأوجبتم القضاء على من أكل في رمضان جاهلا ببقاء النهار دون الناسي ، وفي غير ذلك من المسائل ، وفرقتم بين ما جمع الله بينه من عقود الإجارات كاستئجار الرجل لطحن الحب بنصف كر من دقيق واستئجاره لطحنه بنصف كر منه فصححتم الأول دون الثاني ، مع استوائهما من جميع الوجوه .

وفرقتم بأن العمل في الأول في العوض الذي استأجره به ليس مستحقا عليه ، وفي الثاني العمل مستحق عليه فيكون مستحقا له وعليه ، وهذا فرق صوري لا تأثير له ولا تتعلق بوجوده مفسدة قط ، لا جهالة ولا ربا ولا غرر ولا تنازع ولا هي مما يمنع صحة العقد بوجه ، وأي غرر أو مفسدة أو مضرة للمتعاقدين في أن يدفع إليه غزله ينسجه ثوبا بربعه وزيتونه يعصره زيتا بربعه وحبه يطحنه بربعه ؟ وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين لا تتم مصلحتهما في كثير من المواضع إلا به ، فإنه ليس كل واحد يملك عوضا يستأجر به من يعمل له ذلك ، والأجير محتاج إلى جزء من ذلك ، والمستأجر محتاج إلى العمل ، وقد تراضيا بذلك .

ولم يأت من الله ورسوله نص يمنعه ، ولا قياس صحيح ، ولا قول صاحب ، ولا مصلحة معتبرة ولا مرسلة ، ففرقتم بين ما جمع الله بينه ، وجمعتم بين ما فرق الله بينه ، فقلتم : لو اشترى عنبا ليعصره خمرا أو سلاحا ليقتل به مسلما ونحو ذلك إن البيع صحيح ، وهو كما لو اشتراه ليقتل به عدو الله ويجاهد به في سبيله أو اشترى عنبا ليأكله ، كلاهما سواء في الصحة ، وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم : لو استأجر دارا ليتخذها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار جاز له كما لو استأجرها ليسكنها ، ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم : لو استأجرها ليتخذها مسجدا لم تصح الإجارة .

وفرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم : لو استأجر أجيرا بطعامه وكسوته لم يجز ، والله - سبحانه - لم يفرق بين ذلك وبين استئجاره بطعام مسمى وثياب معينة ، وقد كان الصحابة يؤجر أحدهم نفسه في السفر والغزو بطعام بطنه ومركوبه ، وهم أفقه الأمة ، وفرقتم بين ما جمع الله بينه من عقدين متساويين من كل وجه ، وقد صرح المتعاقدان فيهما بالتراضي ، وعلم الله - سبحانه - تراضيهما [ ص: 221 ] والحاضرون .

فقلتم : هذا عقد باطل لا يفيد الملك ولا الحل حتى صرحا بلفظ بعت واشتريت ، ولا يكفيهما أن يقول كل واحد منهما أنا راض بهذا كل الرضا ، ولا قد رضيت بهذا عوضا عن هذا ، مع كون هذا اللفظ أدل على الرضا الذي جعله الله - سبحانه - شرطا للحل من لفظه بعت واشتريت ، فإنه لفظ صريح فيه ، وبعت واشتريت إنما يدل عليه باللزوم ، وكذلك عقد النكاح ، وليس ذلك من العبادات التي تعبدنا الشارع فيها بألفاظ لا يقوم غيرها مقامها كالأذان وقراءة الفاتحة في الصلاة وألفاظ التشهد وتكبيرة الإحرام وغيرها ، بل هذه العقود تقع من البر والفاجر والمسلم والكافر ، ولم يتعبدنا الشارع فيها بألفاظ معينة ، فلا فرق أصلا بين لفظ الإنكاح والتزويج وبين كل لفظ يدل على معناها .

وأفسد من ذلك اشتراط العربية مع وقوع النكاح من العرب والعجم والترك والبربر ومن لا يعرف كلمة عربية ، والعجب أنكم اشترطتم تلفظه بلفظ لا يدري ما معناه ألبتة وإنما هو عنده بمنزلة صوت في الهواء فارغ لا معنى تحته ، فعقدتم العقد به ، وأبطلتموه بتلفظه باللفظ الذي يعرفه ويفهم معناه ويميز بين معناه وغيره ، وهذا من أبطل القياس ، ولا يقتضي القياس إلا ضد هذا ، فجمعتم بين ما فرق الله بينه ، وفرقتم بين ما جمع الله بينه .

وبإزاء هذا القياس من يجوز قراءة القرآن بالفارسية ، ويجوز انعقاد الصلاة بكل لفظ يدل على التعظيم كسبحان الله ، وجل الله ، والله العظيم ، ونحوه - عربيا كان أو فارسيا ويجوز إبدال لفظ التشهد بما يقوم مقامه ، وكل هذا من جنايات الآراء والأقيسة ، والصواب اتباع ألفاظ العبادات ، والوقوف معها ، وأما العقود والمعاملات فإنما يتبع مقاصدها والمراد منها بأي لفظ كان ، إذ لم يشرع الله ورسوله لنا التعبد بألفاظ معينة لا نتعداها .

وجمعتم بين ما فرق الله بينه من إيجاب النفقة والسكنى للمبتوتة وجعلتموها كالزوجة ، وفرقتم بين ما جمع الله ورسوله بينه من ملازمة الرجعية المعتدة والمتوفى عنها زوجها منزلهما حيث يقول تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } وحيث { أمر النبي صلى الله عليه وسلم المتوفى عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله } ، وجمعتم بين ما فرق الله بينهما من بول الطفل والطفلة الرضيعين فقلتم : يغسلان ، وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من وجوب غسل قليل البول وكثيره ، وفرقتم بين ما جمع الله ورسوله بينهما من ترتيب أعضاء الوضوء وترتيب أركان الصلاة ، فأوجبتم الثاني دون الأول ، ولا فرق بينهما لا في المعنى ولا في النقل ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله - سبحانه - أمره ونهيه ، ولم يتوضأ قط إلا مرتبا ولا مرة واحدة في عمره كما لم يصل إلا مرتبا ، ومعلوم أن العبادة المنكوسة ليست كالمستقيمة ، ويكفي هذا الوضوء اسمه وهو أنه وضوء منكس ، فكيف يكون عبادة ؟

[ ص: 222 ] وجمعتم بين ما فرق الله بينه من إزالة النجاسة ورفع الحدث فسويتم بينهما في صحة كل منهما بغير نية ، وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من الوضوء والتيمم فاشترطتم النية لأحدهما دون الآخر ، وتفريقكم بأن الماء يطهر بطبعه فاستغنى عن النية بخلاف التراب فإنه لا يصير مطهرا إلا بالنية فرق صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة فإنه مزيل لها بطبعه . وأما رفع الحدث فإنه ليس رافعا له بطبعه ، إذ الحدث ليس جسما محسوسا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة ، وإنما يرفعه بالنية ، فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله ، فهذا هو القياس المحض .

وجمعتم بين ما فرق الله بينه فسويتم بين بدن أطيب المخلوقات وهو ولي الله المؤمن وبين بدن أخبث المخلوقات وهو عدوه الكافر ، فنجستم كليهما بالموت ، ثم فرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم : لو غسل المسلم ثم وقع في ماء لم ينجسه ، ولو غسل الكافر ثم وقع في ماء نجسه ، ثم ناقضتم في الفرق بأن المسلم إنما غسل ليصلى عليه فطهر بالغسل لاستحالة الصلاة عليه وهو نجس بخلاف الكافر ، وهذا الفرق ينقض ما أصلتموه من أن النجاسة بالموت نجاسة عينية فلا تزول بالغسل ; لأن سببها قائم وهو الموت ، وزوال الحكم مع بقاء سببه ممتنع ، فأي القياسين هو المعتد به في هذه المسألة ؟ وفرقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما فقلتم : لو طلعت عليه الشمس وقد صلى من الصبح ركعة بطلت صلاته ، ولو غربت عليه الشمس وقد صلى من العصر ركعة صحت صلاته ، والسنة الصحيحة الصريحة قد سوت بينهما ، وتفريقكم بأنه في الصبح خرج من وقت كامل إلى غير وقت كامل ففسدت صلاته وفي العصر خرج من وقت كامل إلى وقت كامل وهو وقت صلاة فافترقا ، ولو لم يكن في هذا القياس إلا مخالفته لصريح السنة لكفى في بطلانه ، فكيف وهو قياس فاسد في نفسه ؟ ، فإن الوقت الذي خرج إليه في الموضعين ليس وقت الصلاة الأولى ، فهو ناقص بالنسبة إليها ، ولا ينفع كماله بالنسبة إلى الصلاة التي هو فيها .

فإن قيل : لكنه خرج إلى وقت نهي في الصبح وهو وقت طلوع الشمس ، ولم يخرج إلى وقت نهي في المغرب .

قيل : هذا فرق فاسد ; لأنه ليس بوقت نهي عن هذه الصلاة التي هو فيها بل هو وقت أمر بإتمامها بنص صاحب الشرع حيث يقول : { فليتم صلاته } وإن كان وقت نهي بالنسبة إلى التطوع ، فظهر أن الميزان الصحيح مع السنة الصحيحة ، وبالله التوفيق .

وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم : المختلعة البائنة التي قد ملكت نفسها يلحقها [ ص: 223 ] الطلاق ، فسويتم بينها وبين الرجعية في ذلك ، وقد فرق الله بينهما بأن جعل هذه مفتدية لنفسها مالكة لها كالأجنبية وتلك زوجها أحق بها ، ثم فرقتم بين ما جمع الله بينه ، فأوقعتم عليها مرسل الطلاق دون معلقه وصريحه دون كنايته ، ومن المعلوم أن من ملكه الله أحد الطلاقين ملكه الآخر ، ومن لم يملكه هذا لم يملكه هذا .

وجمعتم بين ما فرق الله بينه فمنعتم من أكل الضب وقد أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر ، وقيل له : أحرام هو ؟ فقال : لا ، فقستموه على الأحناش والفئران ، وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من لحوم الخيل التي أكلها الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع لحوم الإبل وأذن الله تعالى فيها ، فجمع الله ورسوله بينهما في الحل ، وفرق الله ورسوله بين الضب والحنش في التحريم ، وجمعتم بين ما فرقت السنة بينه من لحوم الإبل وغيرها حيث قال : { توضؤا من لحوم الإبل ، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم } فقلتم لا نتوضأ لا من هذا ولا من هذا ، وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينه فقلتم في القيء : إن كان ملء الفم فهو حدث ، وإن كان دون ذلك فليس بحدث ، ولا يعرف في الشريعة شيء يكون كثيره حدثا دون قليلة ، وأما النوم فليس بحدث ، وإنما هو مظنته ، فاعتبروا ما يكون مظنة وهو الكثير ، وفرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم : لو فتح على الإمام في قراءته لم تبطل صلاته ، ولكن تكره ; لأن فتحه قراءة منه ، والقراءة خلف الإمام مكروهة ، ثم قلتم : فلو فتح على قارئ غير إمامه بطلت صلاته ; لأن فتحه عليه مخاطبة له فأبطلت الصلاة ، ففرقتم بين متماثلين ; لأن الفتح إن كان مخاطبة في حق غير الإمام فهو مخاطبة في حق الإمام ، وإن لم يكن مخاطبة في حق الإمام فليس بمخاطبة في حق غيره ، ثم ناقضتم من وجه آخر أعظم مناقضة فقلتم : لما نوى الفتح على غير الإمام خرج عن كونه قارئا إلى كونه مخاطبا بالنية ، ولو نوى الربا الصريح والتحليل الصريح وإسقاط الزكاة بالتمليك الذي اتخذه حيلة لم يكن مرابيا ولا مسقطا للزكاة ولا محللا بهذه النية .

فيالله العجب ، كيف أثرت نية الفتح والإحسان على القارئ وأخرجته عن كونه قارئا إلى كونه مخاطبا ولم تؤثر نية الربا والتحليل مع إساءته بهما وقصده نفس ما حرمه الله فتجعله مرابيا محللا ؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وجمع بين ما فرق الشارع بينهما وتفريق بين ما جمع بينهما ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية