الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

      التالي السابق


      ش تضمنت هذه الآيات إثبات صفة الكلام لله عز وجل .

      وقد تنازع الناس حول هذه المسألة نزاعا كبيرا : فمنهم من جعل كلامه سبحانه مخلوقا منفصلا منه ، وقال : إن معنى ( متكلم ) : خالق للكلام ، وهم المعتزلة ، ومنهم من جعله لازما لذاته أزلا وأبدا ، لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، ونفى عنه الحرف والصوت ، وقال : إنه معنى واحد في الأزل ، وهم الكلابية والأشعرية ، ومنهم من زعم أنه حروف وأصوات قديمة لازمة للذات ، وقال : إنها مقترنة في الأزل ، فهو سبحانه لا يتكلم بها شيئا بعد شيء ، وهم بعض الغلاة ، ومنهم من جعله حادثا قائما بذاته تعالى ، ومتعلقا بمشيئته وقدرته ، ولكن زعم أن له ابتداء في ذاته ، وأن الله لم يكن متكلما في الأزل ، وهم الكرامية ، [ ص: 183 ] ويطول بنا القول لو اشتغلنا بمناقشة هذه الأقوال وإفسادها ، على أن فسادها بين لكل ذي فهم سليم ، ونظر مستقيم .

      وخلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته ، يتكلم بها بمشيئته وقدرته ، فهو لم يزل ولا يزال متكلما إذا شاء ، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقا منفصلا عنه ؛ كما تقول المعتزلة ، ولا لازما لذاته لزوم الحياة لها ؛ كما تقول الأشاعرة ؛ بل هو تابع لمشيئته وقدرته .

      والله سبحانه نادى موسى بصوت ، ونادى آدم وحواء بصوت ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ، ويتكلم بالوحي بصوت ، ولكن الحروف والأصوات التي تكلم الله بها صفة له غير مخلوقة ، ولا تشبه أصوات المخلوقين وحروفهم ؛ كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده ؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته .

      والآيتان الأوليان هنا وهما من سورة النساء تنفيان أن يكون أحد أصدق حديثا وقولا من الله عز وجل ، بل هو سبحانه أصدق من كل أحد في كل ما يخبر به ، وذلك لأن علمه بالحقائق المخبر عنها أشمل وأضبط ، فهو يعلمها على ما هي به من كل وجه ، وعلم غيره ليس كذلك .

      وأما قوله : وإذ قال الله ياعيسى . . إلخ ؛ فهو حكاية لما سيكون يوم القيامة من سؤال الله لرسوله وكلمته عيسى عما نسبه إليه الذين [ ص: 184 ] ألهوه وأمه من النصارى من أنه هو الذي أمرهم بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله .

      وهذا السؤال لإظهار براءة عيسى عليه السلام ، وتسجيل الكذب والبهتان على هؤلاء الضالين الأغبياء .

      وأما قوله : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ؛ فالمراد صدقا في أخباره ، وعدلا في أحكامه ؛ لأن كلامه تعالى إما أخبار ، وهي كلها في غاية الصدق ، وإما أمر ونهي ، وكلها في غاية العدل الذي لا جور فيه ؛ لابتنائها على الحكمة والرحمة .

      والمراد بالكلمة هنا الكلمات ؛ لأنها أضيفت إلى معرفة ، فتفيد معنى الجمع ؛ كما في قولنا : رحمة الله ونعمة الله .

      وأما قوله : وكلم الله موسى تكليما وما بعدها من الآيات التي تدل على أن الله قد نادى موسى وكلمه تكليما ، وناجاه حقيقة من وراء حجاب ، وبلا واسطة ملك ؛ فهي ترد على الأشاعرة الذين يجعلون الكلام معنى قائما بالنفس ؛ بلا حرف ، ولا صوت ! فيقال لهم : كيف سمع موسى هذا الكلام النفسي ؟ فإن قالوا : ألقى الله في قلبه علما ضروريا بالمعاني التي يريد أن يكلمه بها ؛ لم يكن هناك خصوصية لموسى في ذلك .

      وإن قالوا : إن الله خلق كلاما في الشجرة أو في الهواء ، ونحو ذلك ؛ لزم أن تكون الشجرة هي التي قالت لموسى : إني أنا ربك .

      [ ص: 185 ] وكذلك ترد عليهم هذه الآيات في جعلهم الكلام معنى واحدا في الأزل ، لا يحدث منه في ذاته شيء ، فإن الله يقول : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ؛ فهي تفيد حدوث الكلام عند مجيء موسى للميقات ، ويقول : وناديناه من جانب الطور الأيمن ؛ فهذا يدل على حدوث النداء عند جانب الطور الأيمن .

      والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا .

      وكذلك قوله تعالى في شأن آدم وحواء : وناداهما ربهما . . الآية ؛ فإن هذا النداء لم يكن إلا بعد الوقوع في الخطيئة ، فهو حادث قطعا .

      وكذلك قوله تعالى : ويوم يناديهم . . إلخ ؛ فإن هذا النداء والقول سيكون يوم القيامة .

      وفي الحديث : ما من عبد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان .




      الخدمات العلمية