الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الفاء للتعقيب لحكاية قول الذين استكبروا : إنا بالذي آمنتم به كافرون ، أي قالوا ذلك فعقروا ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، وذلك أنهم حين قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتكذيب ، وصمموا عليه ، وعجزوا عن المحاجة والاستدلال ، فعزموا على المصير إلى النكاية والإغاظة لصالح - عليه السلام - ومن آمن به ، ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على الناقة [ ص: 225 ] التي جعلها صالح - عليه السلام - لهم ، وأقامها بينه وبينهم علامة موادعة ما داموا غير متعرضين لها بسوء ، ومقصدهم من نيتهم إهلاك الناقة أن يزيلوا آية صالح - عليه السلام - لئلا يزيد عدد المؤمنين به ، لأن مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشربها ، ولأن في اعتدائهم عليها إيذانا منهم بتحفيزهم للضرار بصالح - عليه السلام - وبمن آمن به بعد ذلك وليروا صالحا عليه السلام أنهم مستحقون بوعيده إذ قال لهم : ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم .

والضمير في قوله : ( فعقروا ) عائد إلى ( الذين استكبروا ) ، وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحدا منهم لأنه كان عن تمالئ ورضى من جميع الكبراء ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة القمر : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ، وهذا كقول النابغة في شأن بني حن :

وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة .

وإنما قتله واحد منهم .

وذكر في الأثر : أن الذي تولى الناقة رجل من سادتهم اسمه قدار بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره ابن سالف . وفي حديث البخاري أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال : انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة .

والعقر : حقيقته الجرح البليغ ، قال امرؤ القيس : 69     تقول وقد مال الغبيط بـنـا مـعـا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل أي جرحته باحتكاك الغبيط في ظهره من ميله إلى جهة ، ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان ، ومنه قولهم ، عقر حمار وحش ، أي ضربه بالرمح [ ص: 226 ] فقطع منه عضوا ، وكانوا يعقرون البعير المراد نحره بقطع عضو منه حتى لا يستطيع الهروب عند النحر ، فلذلك أطلق العقر على النحر على وجه الكناية قال امرؤ القيس :

    ويوم عقرت للعذارى مطيتي

وما في هذه الآية كذلك .

والعتو تجاوز الحد في الكبر ، وتعديته لتضمينه معنى الإعراض .

وأمر ربهم هو ما أمرهم به على لسان صالح - عليه السلام - من قوله : ولا تمسوها بسوء فعبر عن النهي بالأمر لأن النهي عن الشيء مقصود منه الأمر بفعل ضده ، ولذلك يقول علماء الأصول إن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده الذي يحصل به تحقق الكف عن المنهي عنه .

وأرادوا : ( بما تعدنا ) العذاب الذي توعدهم به مجملا . وجيء بالموصول للدلالة على أنهم لا يخشون شيئا مما يريده من الوعيد المجمل . فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعيد .

وقد فرضوا كونه من المرسلين بحرف إن الدال على الشك في حصول الشرط . أي إن كنت من الرسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صدق عليهم هذا اللقب . وهؤلاء . لجهلهم بحقيقة تصرف الله تعالى وحكمته ، يحسبون أن تصرفات الله كتصرفات الخلق ، فإذا أرسل رسولا ولم يصدقه المرسل إليهم غضب الله واندفع إلى إنزال العقاب إليهم ، ولا يعلمون أن الله يمهل الظالمين ثم يأخذهم متى شاء .

وجملة ( فأخذتهم الرجفة ) معترضة بين جملة ( فعقروا الناقة ) وبين جملة ( فتولى عنهم ) أريد باعتراضها التعجيل بالخبر عن نفاذ الوعيد فيهم بعقب عتوهم ، فالتعقيب عرفي ، أي لم يكن بين العقر وبين الرجفة زمن طويل ، كان بينهما ثلاثة أيام ، كما ورد في آية سورة هود [ ص: 227 ] فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب .

وأصل الأخذ تناول شيء باليد ، ويستعمل مجازا في ملك الشيء ، بعلاقة اللزوم ، ويستعمل أيضا في القهر كقوله فأخذهم الله بذنوبهم ، فأخذهم أخذة رابية وأخذ الرجفة : إهلاكها إياهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخذ . ولا شك أن الله نجى صالحا - عليه السلام - والذين آمنوا معه ، كما في آية سورة هود . وقد روي أنه خرج في مائة وعشرة من المؤمنين ، فقيل : نزلوا رملة فلسطين ، وقيل : تباعدوا عن ديار قومهم بحيث يرونها ، فلما أخذتهم الرجفة وهلكوا عاد صالح - عليه السلام - ومن آمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : سكنوا مكة وأن صالحا - عليه السلام - دفن بها ، وهذا بعيد كما قلناه في عاد ، ومن أهل الأنساب من يقول : إن ثقيفا من بقايا ثمود ، أي من ذرية من نجا منهم من العذاب ، ولم يذكر القرآن أن ثمودا انقطع دابرهم فيجوز أن تكون منهم بقية .

والرجفة : اضطراب الأرض وارتجاجها ، فتكون من حوادث سماوية كالرياح العاصفة والصواعق ، وتكون من أسباب أرضية كالزلازل ، فالرجفة اسم للحالة الحاصلة ، وقد سماها في سورة هود بالصيحة فعلمنا أن الذي أصاب ثمود هو صاعقة أو صواعق متوالية رجفت أرضهم وأهلكتهم صعقين ، ويحتمل أن تقارنها زلزال أرضية .

والدار : المكان الذي يحتله القوم ، وهو يفرد ويجمع باعتبارين ، فلذلك قال في آية سورة هود : فأصبحوا في ديارهم جاثمين .

فأصبحوا هنا بمعنى صاروا .

والجاثم : المكب على صدره في الأرض مع قبض ساقيه كما يجثو الأرنب ، ولما كان ذلك أشد سكونا وانقطاعا عن اضطراب الأعضاء استعمل في الآية كناية عن همود الجثة بالموت ، ويجوز أن يكون المراد تشبيه حالة وقوعهم على وجوههم حين صعقوا بحالة الجاثم تفظيعا لهيئة ميتتهم ، والمعنى أنهم [ ص: 228 ] أصبحوا جثثا هامدة ميتة على أبشع منظر لميت .

والفاء في قوله : فتولى عنهم عاطفة على جملة : فعقروا الناقة والتولي الانصراف عن فراق وغضب ، ويطلق مجازا على عدم الاكتراث بالشيء ، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنه فارق ديار قومه حين علم أن العذاب نازل بهم ، فيكون التعقيب لقوله : فعقروا الناقة لأن ظاهر تعقيب التولي عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرجفة فأصبحوا جاثمين .

ويحتمل أن يكون مجازا بقرينة الخطاب أيضا ، أي فأعرض عن النظر إلى القرية بعد أصابتها بالصاعقة ، أو فأعرض عن الحزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى : لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين .

فعلى الوجه الأول يكون قوله : يا قوم لقد أبلغتكم إلخ مستعملا في التوبيخ لهم والتسجيل عليهم ، وعلى الوجه الثاني يكون مستعملا في التحسر أو في التبرؤ منهم ، فيكون النداء تحسرا فلا يقتضي كون أصحاب الاسم المنادى ممن يعقل النداء حينئذ ، مثل ما تنادي الحسرة في : يا حسرة .

وقوله : ( لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ) تفسيره مثل تفسير قوله في قصة نوح - عليه السلام - : ( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ) . واللام في لقد لام القسم ، وتقدم نظيره عند قوله : لقد أرسلنا نوحا .

والاستدراك بـ لكن ناشئ عن قوله : لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم لأنه مستعمل في التبرؤ من التقصير في معالجة كفرهم ، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ، فذلك التبرؤ يؤذن بدفع توهم تقصير في الإبلاغ والنصيحة لانعدام ظهور فائدة الإبلاغ والنصيحة ، فاستدرك بقوله : ولكن لا تحبون الناصحين ، أي تكرهون الناصحين فلا تطيعونهم في نصحهم . لأن المحب لمن يحب مطيع ، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النصيحة .

[ ص: 229 ] واستعمال المضارع في قوله : لا تحبون إن كان في حال سماعهم قوله فهو للدلالة على التجديد والتكرير ، أي لم يزل هذا دأبكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقية للإقلاع عما هم فيه ، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية