الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 220 ] واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين

يجوز أن يكون عطفا على قوله : ( اعبدوا الله ) وأن يكون عطفا على قوله : فذروها تأكل في أرض الله إلخ . والقول فيه كالقول في قوله : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح .

وبوأكم معناه أنزلكم ، مشتق من البوء وهو الرجوع ، لأن المرء يرجع إلى منزله ومسكنه ، وتقدم في سورة آل عمران تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .

وقوله في الأرض يجوز أن يكون تعريف الأرض للعهد ، أي في أرضكم هذه ، وهي أرض الحجر ، ويجوز أن يكون للجنس لأنه لما بوأهم في أرض معينة فقد بوأهم في جانب من جوانب الأرض .

والسهول جمع سهل ، وهو المستوي من الأرض ، وضده الجبل .

والقصور : جمع قصر وهو المسكن ، وهذا يدل على أنهم كانوا يشيدون القصور ، وآثارهم تنطق بذلك . و ( من ) في قوله من سهولها للظرفية ، أي : تتخذون في سهولها قصورا .

والنحت : بري الحجر والخشب بآلة على تقدير مخصوص .

والجبال : جمع جبل وهو الأرض الناتئة على غيرها مرتفعة ، والجبال : ضد السهول .

والبيوت : جمع بيت وهو المكان المحدد المتخذ للسكنى ، سواء كان مبنيا من حجر أم كان من أثواب شعر أو صوف . وفعل النحت [ ص: 221 ] يتعلق بالجبال لأن النحت يتعلق بحجارة الجبال ، وانتصب ( بيوتا ) على الحال من الجبال ، أي صائرة بعد النحت بيوتا ، كما يقال : خط هذا الثوب قميصا ، وابر هذه القصبة قلما ، لأن الجبل لا يكون حاله حال البيوت وقت النحت ، ولكن يصير بيوتا بعد النحت .

ومحل الامتنان هو أن جعل منازلهم قسمين : قسم صالح للبناء فيه ، وقسم صالح لنحت البيوت ، قيل : كانوا يسكنون في الصيف القصور ، وفي الشتاء البيوت المنحوتة في الجبال .

وتفريع الأمر بذكر آلاء الله على قوله : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد تفريع الأعم على الأخص ، لأنه أمرهم بذكر نعمتين ، ثم أمرهم بذكر جميع النعم التي لا يحصونها ، فكان هذا بمنزلة التذييل .

وفعل : اذكروا مشتق من المصدر ، الذي هو بضم الذال ، وهو التذكر بالعقل والنظر النفساني ، وتذكر الآلاء يبعث على الشكر والطاعة وترك الفساد ، فلذلك عطف نهيهم عن الفساد في الأرض على الأمر بذكر آلاء الله .

ولا تعثوا معناه ولا تفسدوا ، يقال : عثي كرضي ، وهذا الأفصح ، ولذلك جاء في الآية بفتح الثاء حين أسند إلى واو الجماعة ، ويقال عثا يعثو - من باب سما - عثوا وهي لغة دون الأولى ، وقال كراع ، كأنه مقلوب عاث . والعثي والعثو كله بمعنى أفسد أشد الإفساد .

و ( مفسدين ) حال مؤكدة لمعنى تعثوا وهو وإن كان أعم من المؤكد فإن التأكيد يحصل ببعض معنى المؤكد .

التالي السابق


الخدمات العلمية