الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون جملة معترضة بين جملة كذلك نخرج الموتى وبين جملة لقد أرسلنا نوحا تتضمن تفصيلا لمضمون جملة فأخرجنا به من كل الثمرات إذ قد بين فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السحاب ، دعا إلى هذا التفصيل أنه لما مثل إخراج ثمرات الأرض بإخراج الموتى منها يوم البعث تذكيرا بذلك للمؤمنين ، وإبطالا لإحالة البعث عند المشركين ، مثل هنا باختلاف حال إخراج النبات من الأرض اختلاف حال الناس الأحياء في الانتفاع برحمة هدى الله ، فموقع قوله والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه كموقع قوله كذلك نخرج الموتى ولذلك ذيل هذا بقوله كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون كما ذيل ما قبله بقوله : كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون .

والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهدي من خلقت فطرته طيبة قابلة للهدى كالبلد الطيب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتا نافعا ، فالمقصود من هذه الآية التمثيل ، وليس المقصود مجرد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأن الغرض المسوق له الكلام [ ص: 185 ] يجمع أمرين : العبرة بصنع الله ، والموعظة بما يماثل أحواله . فالمعنى : كما أن البلد الطيب يخرج نباته سريعا بهجا عند نزول المطر ، والبلد الخبيث لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبتا خبيثا لا خير فيه .

والطيب وصف على وزن فيعل وهي صيغة تدل على قوة الوصف في الموصوف مثل : قيم ، وهو المتصف بالطيب ، وقد تقدم تفسير الطيب عند قوله تعالى قل أحل لكم الطيبات في سورة المائدة ، وعند قوله يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا في سورة البقرة .

والبلد الطيب الأرض الموصوفة بالطيب ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النبات الصالح وللزرع والغرس وهي الأرض النقية .

والذي خبث ضد الطيب .

وقوله بإذن ربه في موضع الحال من نباته . والإذن : الأمر ، والمراد به أمر العناية به كقوله لما خلقت بيدي ليدل على تشريف ذلك النبات ، فهو في معنى الوصف بالزكاء ، والمعنى : البلد الطيب يخرج نباته طيبا زكيا مثله ، وقد أشار إلى طيب نباته بأن خروجه بإذن ربه ، فأريد بهذا الإذن إذن خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التقدير والتكوين فإن ذلك إذن معروف لا يتعلق الغرض ببيانه في مثل هذا المقام .

والذي خبث حمله جميع المفسرين على أنه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطيب ، وفسروه بالأرض التي لا تنبت إلا نباتا لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السباخ ، وحملوا ضمير يخرج على أنه عائد للنبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا ، فحذف المضاف في التقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستتر في فعل يخرج .

[ ص: 186 ] والذي يظهر لي : أن يكون " الذي " صادقا على نبات الأرض ، والمعنى : والنبت الذي خبث لا يخرج إلا نكدا ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطيب بعد نبات البلد الطيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النبات الخبيث ، لدلالة كلا الضدين على الآخر . والتقدير : والبلد الطيب يخرج نباته طيبا بإذن ربه ، والنبات الذي خبث يخرج نكدا من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ .

وقرأ الجميع لا يخرج بفتح التحتية وضم الراء إلا ابن وردان عن أبي جعفر قرأ بضم التحتية وكسر الراء على خلاف المشهور عنه ، وقيل إن نسبة هذا لابن وردان توهم .

والنكد وصف من النكد بفتح الكاف وهو مصدر نكد الشيء إذا كان غير صالح يجر على مستعمله شرا . وقرأ أبو جعفر إلا نكدا ، بفتح الكاف .

وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصحيح عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع بها الله الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع لذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .

والإشارة بقوله كذلك نصرف الآيات إلى تفنن الاستدلال بالدلائل الدالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانية ، والدالة أيضا على وقوع البعث بعد الموت ، والدالة على اختلاف قابلية الناس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضح البين المقرب في جميع ذلك ، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات [ ص: 187 ] أي : الدلائل .

والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيها على أنهم مورد التمثيل بالبلد الطيب ، وأن غيرهم مورد التمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية