الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 459 ] ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما ، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي ; إذ لا يخلو الفعل العادي ـ إذا خلا عن قصد التعبد ـ أن يفعل بقصد أو بغير قصد ، والمفعول بقصد ; إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته ، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل أو في المخالفة فيترك ; إما اختيارا وإما اضطرارا ; فهذه أربعة أقسام :

              أحدها : أن يفعل من غير قصد كالغافل والنائم ، فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير ، فليس فيه ثواب ولا عقاب ; لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف ، فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا يترتب عليه ثمرته .

              والثاني : أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا ، فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك كالأول ، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا كأداء الديون ورد الودائع والأمانات ، والإنفاق على الأولاد ، وأشباه ذلك ، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع ; لأن الأعمال بالنيات ، وقد قال في الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ومعنى الحديث [ ص: 460 ] متفق عليه ، ومقطوع به في الشريعة .

              فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني .

              والثالث : أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا ، كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها ، عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد ، فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني ; لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا ، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع ، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول ، ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرها ; فإنها صحيحة على الإطلاق الأول ; إذ كانت مسقطة للقضاء أو مبرئة للذمة ، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني ، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا أو استحياء من الناس أو ما أشبه هذا ، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط ، فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا [ ص: 461 ] على حال ، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات .

              والرابع : أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا ; كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح ، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله ; فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح ، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا ; فهو من الصحيح بالاعتبارين ، كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة ، فهو من الباطل بالاعتبارين ; فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني ، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه لا بالنظر إلى ما يستلزم .

              والثاني : أن يكون صحيحا بالاعتبارين ، معا بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه دون ما لم يؤذن له فيه ، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة ، وقولهم : أيقضي شهوته ، ثم يؤجر فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، وهذا مبسوط في كتاب " المقاصد " من هذا الكتاب .

              [ ص: 462 ] والثالث : أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل ، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل ، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام ، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح ، والأول بالنظر إليه في نفسه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية