الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين استئناف جاء معترضا بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها ، فالجملة معترضة بين [ ص: 171 ] جملة يغشي الليل النهار وجملة وهو الذي يرسل الرياح جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فرص تهيؤ القلوب للذكرى . والخطاب بـ ادعوا خاص بالمسلمين لأنه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته ، وليس المشركون بمتهيئين لمثل هذا الخطاب ، وهو تقريب للمؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبته ، وشاهده قوله بعده : إن رحمة الله قريب من المحسنين .

والخطاب موجه إلى المسلمين بقرينة السياق .

و الدعاء حقيقته النداء ، ويطلق أيضا على النداء لطلب مهم ، واستعمل مجازا في العبادة لاشتمالها على الدعاء والطلب بالقول أو بلسان الحال ، كما في الركوع والسجود ، مع مقارنتهما للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن .

والظاهر أن المراد منه هنا الطلب والتوجه ، لأن المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة ، وإنما المهم إشعارهم بالقرب من رحمة ربهم وإدناء مقامهم منها .

وجيء لتعريف الرب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب ، مع وجود معاد قريب في قوله تبارك الله ودون ضمير المتكلم ، لأن في لفظ الرب إشعارا بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية ، وليتوسل بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرب بهم كقوله بل الله مولاكم .

والتضرع : إظهار التذلل بهيئة خاصة ، ويطلق التضرع على الجهر بالدعاء لأن الجهر من هيئة التضرع ، لأنه تذلل جهري ، وقد فسر في هذه الآية وفي قوله في سورة الأنعام تدعونه تضرعا وخفية بالجهر بالدعاء ، وهو الذي نختاره لأنه أنسب بمقابلته بالخفية ، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله وادعوه خوفا وطمعا وتكون ، الواو للتقسيم بمنزلة أو وقد قالوا : إنها فيه أجود من أو . ومن المفسرين من أبقى التضرع على حقيقته وهو التذلل ، فيكون مصدرا بمعنى الحال ، أي متذللين ، [ ص: 172 ] أو مفعولا مطلقا لـ ادعوا ، لأن التذلل بعض أحوال الدعاء فكأنه نوع منه ، وجعلوا قوله ( وخفية ) مأمورا به مقصورا بذاته ، أي ادعوه مخفين دعاءكم ، حتى أوهم كلام بعضهم أن الإعلان بالدعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه ، وهذا خطأ : فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - دعا علنا غير مرة . وعلى المنبر بمسمع من الناس وقال : اللهم اسقنا . وقال : اللهم حوالينا ولا علينا . وقال : اللهم عليك بقريش . الحديث . وما رويت أدعيته إلا لأنه جهر بها يسمعها من رواها ، فالصواب أن قوله تضرعا إذن بالدعاء بالجهر والإخفاء ، وأما ما ورد من النهي عن الجهر فإنما هو عن الجهر الشديد الخارج عن حد الخشوع . وقرأ الجمهور ( وخفية ) بضم الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدم في الأنعام .

وجملة إنه لا يحب المعتدين واقعة موقع التعليل للأمر بالدعاء ، إشارة إلى أنه أمر تكريم للمسلمين يتضمن رضا الله عنهم ، ولكن سلك في التعليل طريق إثبات الشيء بإبطال ضده ، تنبيها على قصد الأمرين وإيجازا في الكلام . ولكون الجملة واقعة موقع التعليل افتتحت بـ إن المفيدة لمجرد الاهتمام ، بقرينة خلو المخاطبين عن التردد في هذا الخبر ، ومن شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل والربط ، وتقوم مقام الفاء ، كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر .

وإطلاق المحبة وصفا لله تعالى ، في هذه الآية ونحوها ، إطلاق مجازي مراد بها لازم معنى المحبة ، بناء على أن حقيقة المحبة انفعال نفساني ، وعندي فيه احتمال ، فقالوا : أريد لازم المحبة ، أي في المحبوب والمحب ، فيلزمها اتصاف المحبوب بما يرضي المحب لتنشأ المحبة التي أصلها الاستحسان ، ويلزمها رضى المحب عن محبوبه وإيصال النفع له . وهذان اللازمان متلازمان في أنفسهما ، فإطلاق المحبة وصفا لله مجاز بهذا اللازم المركب .

[ ص: 173 ] والمراد بـ ( المعتدين ) المشركون ، لأنه يرادف الظالمين .

والمعنى : ادعوا ربكم لأنه يحبكم ولا يحب المعتدين ، كقوله وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنه لا يستجيب دعاء الكافرين ، قال تعالى وما دعاء الكافرين إلا في ضلال على أحد تأويلين فيها . وحمل بعض المفسرين التضرع على الخضوع ، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدعاء الخفي حتى بالغ بعضهم فجعل الجهر بالدعاء منهيا عنه ، وتجاوز بعضهم فجعل قوله إنه لا يحب المعتدين تأكيدا لمعنى الأمر بإخفاء الدعاء ، وجعل الجهر بالدعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبهم الله . ونقل ذلك عن ابن جريج ، وأحسب أنه نقل عنه غير مضبوط العبارة ، كيف وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهرا ودعا أصحابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية