الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به أما كونه لا ينسخ ، فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة الرسول ، والنسخ لا يكون بعد موته . هكذا قاله ابن الصباغ ، وسليم ، وابن السمعاني ، وأبو الحسين في " المعتمد " والإمام فخر الدين . [ ص: 285 ] وجعلوا هذه المسألة مبنية على أن الإجماع لا ينعقد في زمانه ، لأن قولهم بدون قوله لاغ ; وأما معه فالحجة في قوله ، وقول الغير لاغ ، وإذا لم ينعقد إلا بعد زمانه فلا يمكن نسخه بالكتاب والسنة لتعذرهما بعد وفاته ، ولا بإجماع آخر ، لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ . وإن كان عن دليل فقد غفل عنه الإجماع الأول ، فكان خطأ ، والإجماع لا يكون خطأ ، فاستحال النسخ بالإجماع ، ولا بالقياس ، لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفا للإجماع فتعذر نسخ الإجماع مطلقا ، لأنه لو انتسخ لكان انتساخه بواحد مما ذكرنا ، والكل باطل . وما ذكروه من عدم تصور انعقاد الإجماع في حياته عليه السلام هو ما ذكره أكثر الأصوليين ، وفيه نظر إذا جوزنا لهم الاجتهاد في زمانه كما هو الصحيح ، فلعلهم اجتهدوا في مسألة ، وأجمعوا عليها من غير علمه صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر أبو الحسين البصري في " المعتمد " بعد ذلك ما يخالف الأول ، فإنه جزم بأن الإجماع لا ينسخ ، لأنه إنما ينعقد بعد وفاته ، ثم قال : نعم ، يجوز أن ينسخ الله حكما أجمعت عليه الأمة على عهده . ثم قال : فإن قيل : يجوز أن ينسخ إجماع وقع في زمانه . قلنا : يجوز ، وإنما منعنا الإجماع بعده أن ينسخ . وأما في حياته فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا عليه ، لا حكمه . وقد استشكل القرافي في " شرح التنقيح " هذا الحكم ، ونقل عن أبي إسحاق ، وابن برهان جواز انعقاد الإجماع في زمانه . قال : وشهادة الرسول لهم بالعصمة متناولة لما في زمانه وما بعده . وقال صاحب " المصادر " : ذهب الجماهير إلى أن الإجماع لا يكون [ ص: 286 ] ناسخا ولا منسوخا ، لأنه إنما يستقر بعد انقطاع الوحي ، والنسخ إنما يكون بالوحي .

                                                      قال الشريف المرتضى : وهذا غير كاف ، لأن دلالة الإجماع عندنا مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده . قال : فالأقرب أن يقال : أجمعت الأمة على أن ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، أي لا يقع ذلك ، لا أنه غير جائز . ولا يلتفت إلى خلاف عيسى بن أبان ، وقوله : إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت . انتهى . وأما كونه ينسخ به فكما لا يكون منسوخا لا يكون ناسخا ، لأنه لما كان ينعقد بعد زمانه لم يتصور أن ينسخ ما كان من الشرعيات في زمانه ، ولأن الأمة لا تجتمع على مثل هذا ، لأنه يكون إجماعا على خلافه ، وهم معصومون منه . فإن قيل : قد نسختم خبر الواحد بالإجماع ، وهو حديث الغسل من غسل الميت ، والوضوء من مسه ؟ قلنا : إنما استدل بمخالفة الإجماع له على تقدير نسخه فصار منسوخا بغير الإجماع ، لا بالإجماع ، فصار الإجماع في هذا الموضع دليلا على النسخ ، لا أنه وقع به النسخ . قاله ابن السمعاني في " القواطع " . [ ص: 287 ] وقال الأستاذ أبو منصور : إذا أجمعت الأمة على حكم واحد ، ووجدنا خبرا بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر ، لا نسخه أو تأويله على خلاف ظاهره ، وكذا قال الصيرفي في كتابه : ليس للإجماع حظ في نسخ الشرع ، لأنهم لا يشرعون ، ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر أو رفع حكمه ، لا أنهم رفعوا الحكم ، وإنما هم أتباع لما أمروا به .

                                                      وقال القاضي من الحنابلة : يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه ، بل بمستنده . فإذا رأينا نصا صحيحا والإجماع بخلافه ، استدللنا بذلك على نسخه ، وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ ، وإلا لما خالفوه . وقال ابن حزم : جوز بعض أصحابنا أن يورد حديث صحيح والإجماع على خلافه . قال : وذلك دليل على أنه منسوخ . قال ابن حزم : وهذا عندنا خطأ فاحش ، لأن ذلك معدوم ، لقوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وكلام الرسول وحي محفوظ . ا هـ . وممن جوز كون الإجماع ناسخا الحافظ البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه " ومثله بحديث الوادي الذي في الصحيح حين نام الرسول وأصحابه ، فما أيقظهم إلا حر الشمس . وقال في آخره : { فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ، ومن الغد للوقت } . قال : فأعاد الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين على أنه لا يجب ولا يستحب . ومثله أيضا بحديث أسنده إلى زر قال : { قلت لحذيفة : أي ساعة تسحرتم مع رسول الله ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع } . فقال : أجمع [ ص: 288 ] المسلمون أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب على الصائم مع بيان ذلك في قوله تعالى : { من الفجر } انتهى . ودعواه النسخ في الثاني بالإجماع فيه نظر ، فإن قوله تعالى : { من الفجر } صريح في التقييد بالفجر ، فهو الناسخ حينئذ لا الإجماع ، إلا أن يريد أن الأمة لما أجمعت على ترك ظاهره دل إجماعهم على نسخه لا أن الإجماع هو الناسخ .

                                                      وقال إلكيا : يتصور نسخ الإجماع بأن الأولين إذا اختلفوا على قولين ثم أجمعوا على أحدهما ، فنقول : إن الخلاف نسخ وجزم القول به مع إجماع الأولين على جواز الاختلاف .

                                                      قلنا : الصحيح أن الخلاف الأول يزول به ، ومن قال : يزول به ، قال : هذا لا يعد ناسخا ، لأنهم إنما سوغوا القول الأول ، بشرط أن لا يكون هناك ما يمنع من الاجتهاد ، كالغائب عن الرسول لا يجتهد إلا بشرط فقد النص ، والإجماع كالنص في ذلك ، والاختلاف مشروط بشرط . وهذا بعيد فإن نص الرسول ذلك الحكم المخالف لم يكن حكم الله ، وهنا الإجماع بعد الخلاف لا يبين أن الخلاف لم يكن شرعيا ، وإنما اعترض على دوام حكم الخلاف نسخا ، فإن قيل بهذا المذهب ، فهو نسخ الإجماع على الخلاف لا محالة . انتهى . وقال ابن برهان في " الأوسط " : وأما إجماع الطبقة الثانية على أحد القولين فليس بنسخ ، لأن القول المهجور بطل في نفسه ، ولهذا قال الشافعي : المذاهب لا تموت بموت أربابها ، وأيضا فلفقد شرط الإجماع ، وهو أن يكون للمذهب الأول ذاب وناصر . وقال ابن السمعاني في " القواطع " : وأما نسخ الإجماع بالإجماع فمثل أن تجمع الصحابة في حكم على قولين ، ثم يجمع المانعون بعدهم على قول [ ص: 289 ] واحد ، فيكون الصحابة مجمعين على جواز الاجتهاد ، والمانعون مجمعين على عدم جواز الاجتهاد . قال : وفي هذه المسألة للشافعي قولان ، وإن قلنا بجوازه لا يكون ناسخا ، لأن الصحابة وإن سوغوا الاجتهاد فشرطه ما لم يمنع مانع . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية