الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

جملة هل ينظرون إلا تأويله مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن قوله ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون يثير سؤال من يسأل : فماذا يؤخرهم عن التصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات ؟ وهل أعظم منه آية على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ فكان قوله هل ينظرون كالجواب عن هذا السؤال ، الذي يجيش في نفس السامع .

والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء .

ومعنى ينظرون ينتظرون من النظرة بمعنى الانتظار ، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات ، والمراد المنتظرات من هذا النوع وهو الآيات ، أي [ ص: 154 ] ما ينتظرون آية أعظم إلا تأويل الكتاب ، أي إلا ظهور ما توعدهم به ، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكمية : شبه حال تمهلهم إلى الوقت الذي سيحل عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين ، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه ، وهذا مثل قوله تعالى فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وقوله فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأن المجاز في فعل ينظرون فقط .

والقصر إضافي ، أي بالنسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات ، وقد مضى القول في نظير هذا التركيب عند قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك في سورة الأنعام .

والتأويل توضيح وتفسير ما خفي ، من مقصد كلام أو فعل وتحقيقه . قال تعالى سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا وقال هذا تأويل رؤياي من قبل وقال ذلك خير وأحسن تأويلا وقد تقدم اشتقاقه ومعناه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير ، وضمير تأويله عائد إلى ( كتاب ) من قوله ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم .

وتأويله وضوح معنى ما عدوه محالا وكذبا ، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب ، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة ، وما بعد العيان بيان .

وقد بينته جملة يوم يأتي تأويله يقول إلخ ، فلذلك فصلت ، لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة البيان للمراد من تأويله ، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة ، فالمراد باليوم يوم القيامة ، بدليل تعلقه بقوله يقول الذين نسوه من قبل الآية فإنهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلا يوم القيامة .

[ ص: 155 ] وإتيان تأويله مجاز في ظهوره وتبينه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان . والتأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدالة على صدق القرآن ، فيما أخبرهم وما توعدهم .

و الذين نسوه هم المشركون ، وهم معاد ضمير ينظرون فكان مقتضى الظاهر أن يقال : يقولون ، إلا أنه أظهر بالموصولية لقصد التسجيل عليهم بأنهم نسوه وأعرضوا عنه وأنكروه ، تسجيلا مرادا به التنبيه على خطئهم والنعي عليهم بأنهم يجرون بإعراضهم سوء العاقبة لأنفسهم .

والنسيان مستعمل في الإعراض والصد ، كما تقدم في قوله كما نسوا لقاء يومهم هذا .

والمضاف إليه المقدر المنبئ عنه بناء ( قبل ) على الضم : هو التأويل أو اليوم ، أي من قبل تأويله ، أو من قبل ذلك اليوم ، أي في الدنيا . والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد ، لأن الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر ، أي يتبين لهم الحق ويصرحون به .

وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافا بخطئهم في تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أخبر به عن الرسل من قبله ، ولذلك جمع الرسل هنا ، مع أن الحديث عن المكذبين محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم الأمثال بالرسل السابقين ، وهم لما كذبوه جرأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرسل إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء أو لأنهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السابقة على تكذيب رسلهم ، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثر بجميع ما شاهدوه من التهديد الشامل لهم ولمن عداهم من الأمم .

وقولهم قد جاءت رسل ربنا بالحق خبر مستعمل في الإقرار بخطئهم في تكذيب الرسل ، وإنشاء للحسرة على ذلك ، وإبداء الحيرة فيما ذا [ ص: 156 ] يصنعون ، ولذلك رتبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم فهل لنا من شفعاء إلى آخره .

والاستفهام يجوز أن يكون حقيقيا يقوله بعضهم لبعض ، لعل أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة ، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهددهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التمني . ويجوز أن يكون مستعملا في النفي ، على معنى التحسر والتندم ، و ( من ) زائدة للتوكيد ، على جميع التقادير ، فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه ، ليفيد أنهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم ، إذ قد يئسوا منهم ، كما قال تعالى وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم ، ولو يكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - الذي ناصبوه العداء في الحياة الدنيا ، ونظيره قوله تعالى ، في سورة المؤمن فهل إلى خروج من سبيل .

وانتصب فيشفعوا على جواب الاستفهام ، أو التمني ، أو النفي .

( والشفعاء ) جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشفاعة ، وهم يسمون أصنامهم شفعاء قال تعالى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

وتقدم معنى الشفاعة عند قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة في سورة البقرة ، وعند قوله من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة في سورة البقرة وعند قوله من يشفع شفاعة حسنة في سورة النساء .

وعطف فعل نرد بـ أو على مدخول الاستفهام ، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين ، لأن أحدهما لا يجتمع مع الآخر ، فإذا حصلت الشفاعة فلا حاجة إلى الرد ، وإذا حصل الرد استغني عن الشفاعة .

[ ص: 157 ] وإذ كانت جملة لنا من شفعاء واقعة في حيز الاستفهام ، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام ، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة ، ورفعه بتجرده عن عامل النصب وعامل الجزم ، فوقع موقع الاسم كما قدره الزمخشري تبعا للفراء ، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله ، بردها إلى جملة فعلية ، بتقدير : هل يشفع لنا شفعاء كما قدره الزجاج ، لعدم الملجئ إلى ذلك ، ولذلك انتصب : فنعمل في جواب نرد كما انتصب فيشفعوا في جواب فهل لنا من شفعاء .

والمراد بالعمل في قولهم فنعمل ما يشمل الاعتقاد ، وهو الأهم ، مثل اعتقاد الوحدانية والبعث وتصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، لأن الاعتقاد عمل القلب ، ولأنه تترتب عليه آثار عملية ، من أقوال وأفعال وامتثال . والمراد بالصلة في قوله الذي كنا نعمل ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم قد جاءت رسل ربنا بالحق أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرسول - عليه الصلاة والسلام - .

وجملة قد خسروا أنفسهم مستأنفة استئنافا ابتدائيا تذييلا وخلاصة لقصتهم ، أي فكان حاصل أمرهم أنهم خسروا أنفسهم من الآن وضل عنهم ما كانوا يفترون .

والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النفع ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون في سورة الأنعام ، وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم في أول هذه السورة . والمعنى : أن ما أقحموا فيه نفوسهم من الشرك والتكذيب قد تبين أنه مفض بهم إلى تحقق الوعيد فيهم ، يوم يأتي تأويل ما توعدهم به القرآن ، فبذلك تحقق أنهم خسروا أنفسهم من الآن ، وإن كانوا لا يشعرون .

[ ص: 158 ] وأما قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون فالضلال مستعار للعدم طريقة التهكم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكما عليهم ، وهذا التهكم منظور فيه إلى محاكاة ظنهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل : قالوا ضلوا عنا .

و ( ما ) من قوله ما كانوا يفترون موصولة ، ما صدقها الشفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله ، وحذف عائد الصلة المنصوب ، أي ما كانوا يفترونه ، أي يكذبونه إذ يقولون هؤلاء شفعاؤنا ، وهم جماد لا حظ لهم في شئون العقلاء حتى يشفعوا ، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبر بالمضي لأن الضلال المستعار للعدم متحقق من ماضي الأزمنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية