الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فنادته الملائكة )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة : " فنادته الملائكة " على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع " الملائكة " . وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها ، أنثت أفعالها ، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث ، كقولهم : جاءت الطلحات " .

وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، بمعنى فناداه جبريل ، فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ ، فكذلك يذكرون [ ص: 364 ] فعل المؤنث أيضا للفظ . واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود ، وهو ما : -

6945 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، أن قراءة ابن مسعود : ( فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب ) .

وكذلك تأول قوله : " فنادته الملائكة " جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6946 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فنادته الملائكة " وهو جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل " أن الله يبشرك بيحيى " .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : " فنادته الملائكة " و " الملائكة " جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب ، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : " خرج فلان على بغال البرد " وإنما ركب بغلا واحدا " وركب السفن " وإنما ركب سفينة واحدة . وكما يقال : " ممن سمعت هذا الخبر " ؟ فيقال : " من الناس " وإنما سمعه من رجل واحد . وقد قيل إن منه قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) [ سورة آل عمران : 173 ] ، والقائل كان فيما كان ذكر - واحدا وقوله : ( وإذا مس الناس ضر ) [ ص: 365 ] [ سورة الروم : 33 ] ، والناس بمعنى واحد . وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد .

قال أبو جعفر : وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان أعني " التاء " و " الياء " فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القراءتين ، وهما جميعا فصيحتان عند العرب ، وذلك أن " الملائكة " إن كان مرادا بها جبريل ، كما روي عن عبد الله ، فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها ، إن تقدمها الفعل . وجائز فيه التذكير لمعناها .

وإن كان مرادا بها جمع " الملائكة " فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قبلها ، للفظها . وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها ، أنثته ، فقالت : " قالت النساء " . وجائز التذكير في فعلها ، بناء على الواحد ، إذا تقدم فعله ، فيقال : " قال الرجال " .

وأما الصواب من القول في تأويله ، فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته . والظاهر من ذلك ، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، وجبريل واحد .

ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقل ما وجد إلى ذلك سبيل . ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني .

وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم : قتادة ، والربيع [ ص: 366 ] بن أنس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وجماعة غيرهم . وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى .

التالي السابق


الخدمات العلمية