الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الأكفاء في الدين وقوله وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا

                                                                                                                                                                                                        4800 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتى أنزل الله ادعوهم لآبائهم إلى قوله ومواليكم فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وقد أنزل الله فيه ما قد علمت فذكر الحديث [ ص: 35 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 35 ] قوله ( باب الأكفاء في الدين ) جمع كفء بضم أوله وسكون الفاء بعدها هـمزة : المثل والنظير . واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه ، فلا تحل المسلمة لكافر أصلا .

                                                                                                                                                                                                        قوله وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا الآية ) قال الفراء النسب من لا يحل نكاحه ، والصهر من يحل نكاحه . فكأن المصنف لما رأى الحصر وقع بالقسمين صلح التمسك بالعموم لوجود الصلاحية إلا ما دل الدليل على اعتباره وهو استثناء الكافر ، وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين مالك ، ونقل عن ابن عمر وابن مسعود ، ومن التابعين عن محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز . واعتبر الكفاءة في النسب الجمهور ، وقال أبو حنيفة : قريش أكفاء بعضهم بعضا ، والعرب كذلك ، وليس أحد من العرب كفأ لقريش كما ليس أحد من غير العرب كفأ للعرب ، وهو وجه للشافعية والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم ، ومن عدا هـؤلاء أكفاء بعضهم لبعض وقال الثوري : إذا نكح المولى العربية يفسخ النكاح ، وبه قال أحمد في رواية . وتوسط الشافعي فقال : ليس نكاح غير الأكفاء حراما فأرد به النكاح ، وإنما هـو تقصير بالمرأة والأولياء ، فإذا رضوا صح ويكون حقا لهم تركوه ، فلو رضوا إلا واحدا فله فسخه . وذكر أن المعنى في اشتراط الولاية في النكاح كيلا تضيع المرأة نفسها في غير كفء انتهى . ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث ، وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه " العرب بعضهم أكفاء بعض ، والموالي بعضهم أكفاء بعض " فإسناده ضعيف . واحتج البيهقي بحديث واثلة مرفوعا " إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل " الحديث وهو صحيح أخرجه مسلم ، لكن في الاحتجاج به لذلك نظر ، لكن ضم بعضهم إليه حديث " قدموا قريشا ولا تقدموها " ونقل ابن المنذر عن البويطي أن الشافعي قال : الكفاءة في الدين ، وهو كذلك في " مختصر البويطي " قال الرافعي : وهو خلاف مشهور . ونقل الأبزى عن الربيع أن رجلا سأل الشافعي عنه فقال : أنا عربي لا تسألني عن هذا . ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث : الحديث الأول حديث عائشة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أن أبا حذيفة ) اسمه مهشم على المشهور وقيل هشام وقيل غير ذلك وهو خال معاوية بن أبي سفيان

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 36 ] قوله ( تبنى ) بفتح المثناة والموحدة وتشديد النون بعدها ألف أي اتخذه ولدا ، وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة ، ولم يكن مولاه وإنما كان يلازمه ، بل كان من حلفائه كما وقع في رواية لمسلم ، وكان استشهاد أبي حذيفة وسالم جميعا يوم اليمامة في خلافة أبي بكر .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وأنكحه ) أي زوجه ( هندا ) كذا في هذه الرواية ، ووقع عند مالك " فاطمة " فلعل لها اسمين ، والوليد بن عتبة أحد من قتل ببدر كافرا ، وقوله " بنت أخيه " بفتح الهمزة وكسر المعجمة ثم تحتانية هو الصحيح ، وحكى ابن التين أن في بعض الروايات بضم الهمزة وسكون الخاء ثم مثناة وهو غلط .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وهو مولى امرأة من الأنصار ) تقدم بيان اسمها في غزوة بدر .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا ) أي ابن حارثة ، وقد تقدم خبره بذلك في تفسير سورة الأحزاب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فمن لم يعلم له أب ) بضم أول يعلم وفتح اللام على البناء للمجهول .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( كان مولى وأخا في الدين ) لعل في هذا إشارة إلى قولهم " مولى أبي حذيفة " وإن سالما لما نزلت ادعوهم لآبائهم كان ممن لا يعلم له أب فقيل له مولى أبي حذيفة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إنا كنا نرى ) بفتح النون أي نعتقد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( سالما ولدا ) زاد البرقاني من طريق أبي اليمان شيخ البخاري فيه وأبو داود من رواية يونس عن الزهري " فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد فيراني فضلا " وفضلا بضم الفاء والمعجمة أي متبذلة في ثياب المهنة ، يقال تفضلت المرأة إذا فعلت ذلك ، هذا قول الخطابي وتبعه ابن الأثير وزاد " وكانت في ثوب واحد " وقال ابن عبد البر : قال الخليل رجل فضل متوشح في ثوب واحد يخالف بين طرفيه ، قال : فعلى هذا فمعنى الحديث أنه كان يدخل عليها وهي منكشف بعضها . وعن ابن وهب : فضل مكشوفة الرأس والصدر ، وقيل الفضل الذي عليه ثوب واحد ولا إزار تحته . وقال صاحب الصحاح : تفضلت المرأة في بيتها إذا كانت في ثوب واحد كقميص لا كمين له .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقد أنزل الله فيه ما قد علمت ) أي الآية التي ساقها قبل وهي ادعوهم لآبائهم وقوله وما جعل أدعياءكم أبناءكم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فذكر الحديث ) ساق بقيته البرقاني وأبو داود فكيف ترى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضعيه ، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها ، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس حتى يرضع في المهد ، وقلن لعائشة : والله ما ندري لعلها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس . ووقع عند الإسماعيلي من طريق فياض بن زهير عن أبي اليمان فيه مع عروة أبو عائذ الله بن ربيعة ومع عائشة أم سلمة وقال في آخره : لم يذكرهما البخاري في إسناده . قلت : وقد أخرجه النسائي عن عمران بن بكار [ ص: 37 ] عن أبي اليمان مختصرا كرواية البخاري وأخرجه البخاري في غزوة بدر من طريق عقيل عن الزهري كذلك واختصر المتن أيضا . وأخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد عن الزهري فقال : عن عروة وابن عبد الله بن أبي ربيعة كلاهما عن عائشة وأم سلمة . وأخرجه أبو داود من طريق يونس كما ترى . وأخرجه عبد الرزاق عن معمر والنسائي من طريق جعفر بن ربيعة ، والذهلي من طريق ابن أخي الزهري كلهم عن الزهري كما قال عقيل . وكذا أخرجه مالك وابن إسحاق عن الزهري ، لكنه عند أكثر الرواة عن مالك مرسل . وخالف الجميع عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري فقال : عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة أخرجه الطبراني . قال الذهلي في " الزهريات " هذه الروايات كلها عندنا محفوظة إلا رواية ابن مسافر فانها غير محفوظة ، أي ذكر عمرة في إسناده ، قال : والرجل المذكور مع عروة لا أعرفه إلا أنني أتوهم أنه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة ، فان أمه أم كلثوم بنت أبي بكر ، فهو ابن اخت عائشة ، كما أن عروة ابن اختها ، وقد روى عنه الزهري حديثين غير هذا قال : وهو برواية يحيى بن سعيد أشبه حيث قال ابن عبد الله بن أبي ربيعة فنسبه لجده ، وأما قول شعيب أبي عائذ الله فهو مجهول . قلت : لعلها كنية إبراهيم المذكور .

                                                                                                                                                                                                        وقد نقل المزي في " التهذيب " قول الذهلي هذا وأقره ، وخالف في " الأطراف " فقال : أظنه الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، يعني عم إبراهيم المذكور . والذي أظن أن قول الذهلي أشبه بالصواب . ثم ظهر لي أنه أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة ، فان هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريقه من وجه آخر ، فهذا هـو المعتمد ، وكأن ما عداه تصحيف والله أعلم . وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق القاسم بن محمد عن عائشة ، ومن طريق زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة ، فله أصل من حديثهما ، ففي رواية للقاسم عنده جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو فقالت : يا رسول الله إن في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه ، فقال : أرضعيه . فقالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قد علمت أنه رجل كبير وفي لفظ فقالت إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال ، وأنه يدخل علينا ، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئا من ذلك ، فقال أرضعيه تحرمي عليه . فرجعت إليه فقالت : إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة وفي بعض طرق حديث زينب " قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الذي ما أحب أن يدخل علي ، فقالت : أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ، إن امرأة أبي حذيفة " فذكرت الحديث مختصرا . وفي رواية " الغلام الذي قد استغنى عن الرضاعة " وفيها " فقال : أرضيعه . قالت : إنه ذو لحية . فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة . قالت فوالله ما عرفته في وجه أبي حذيفة وفي لفظ عن أم سلمة " أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة ، وقلن لعائشة : والله ما نرى هذا إلا رخصة لسالم ، فما هـو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رأيتنا " . قلت : وهذا العموم مخصوص بغير حفصة كما سيأتي في أبواب الرضاع ، ونذكر هناك حكم هذه المسألة أعني إرضاع الكبير ان شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية