الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

إعادة النداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدم في قوله يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا .

وهذه الجملة تتنزل ، من التي بعدها ، وهي قوله : قل من حرم زينة الله منزلة النتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضا بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجة على الدعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها .

فالمقصد من قوله : خذوا زينتكم إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التعري في الحج في أحوال خاصة ، وعند مساجد معينة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عباس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

[ ص: 93 ] وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس . والحمس قريش وما ولدت ، فكان غيرهم يطوفون عراة إلا أن يعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء . وعنه : أنهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة . وروي أن الحمس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يجد ما يستأجر به كان بين أحد أمرين إما أن يطوف بالبيت عريانا وإما أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد وكان ذلك الثوب يسمى : اللقى - بفتح اللام - قال شاعرهم :

كفى حزنا كري عليه كأنه     لقى بين أيدي الطائفين حرام

وفي الكشاف ، عن طاوس : كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقد أبطله النبيء - صلى الله عليه وسلم - إذ أمر أبا بكر - رضي الله عنه - عام حجته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان .

وعن السدي وابن عباس كان أهل الجاهلية التزموا تحريم اللمم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، ونسب في الكشاف ذلك إلى بني عامر ، وكان الحمس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضنا أن يأكل إلا من طعامنا ، وفي تفسير الطبري [ ص: 94 ] عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرموا الشاة ولبنها وسمنها . وفيه عن قتادة : أن الآية أرادت ما حرموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .

فالأمر في قوله : خذوا زينتكم للوجوب ، وفي قوله : وكلوا واشربوا للإباحة لبني آدم الماضين والحاضرين .

والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطال التحريم الذي جعله أهل الجاهلية بأنهم نقضوا به ما تقرر في أصل الفطرة مما أمر الله به بني آدم كلهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعا . وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحظر ، فإن أصله إبطال التحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله : غير محلي الصيد وأنتم حرم وقد يعرض لما أبطل به التحريم أن يكون واجبا . فقد ظهر من السياق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون اللباس في الحج منه واجب ، وهو ما يستر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالا لتحريمه ، وأما الأمر بالأكل والشرب فهو للإباحة إبطالا للتحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللحم والدسم .

وقوله : عند كل مسجد تعميم أي لا تخصوا بعض المساجد بالتعري مثل المسجد الحرام ومسجد منى ، وقد تقدم نظيره في قوله : وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد .

وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشرب على الأمر بأخذ الزينة مما مضى آنفا .

[ ص: 95 ] والإسراف تقدم عند قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا في سورة النساء ، وهو تجاوز الحد المتعارف في الشيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللحوم والدسم لأن ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة .

وقد قيل إن هذه الآية جمعت أصول حفظ الصحة من جانب الغذاء فالنهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاحقة في قوله قل من حرم زينة الله إلى قوله والطيبات من الرزق ، ولأن مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلق به التكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير الناس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقا : قل أمر ربي بالقسط فإن ترك السرف من معنى العدل .

وقوله : إنه لا يحب المسرفين تذييل ، وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية