الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة

[ ص: 61 ] تفريع على جملة : فوسوس لهما الشيطان وما عطف عليهما .

ومعنى فدلاهما أقدمهما ففعلا فعلا يطمعان به في نفع فخابا فيه ، وأصل دلى تمثيل حال من يطلب شيئا من مظنته فلا يجده بحال من يدلي دلوه أو رجليه في البئر ليستقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال دلى فلان ، يقال دلى كما يقال أدلى .

والباء للملابسة أي دلاهما ملابسا للغرور أي لاستيلاء الغرور عليه ، إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعا بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دلاه بغرور إذا أوقعه في الطمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جندب الهذلي هو ابن مرة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلاميا كان قد أخذ قوله كمن يدلى بالغرور من القرآن ، وإلا كان مستعملا من قبل :

أحص فلا أجير ومن أجره فليس كمن يدلى بالغرور

وعلى هذا الاستعمال ففعل دلى يستعمل قاصرا ، ويستعمل متعديا إذا جعل غيره مدليا ، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللغة في هذا اللفظ ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها .

ودل قوله : فدلاهما بغرور على أنهما فعلا ما وسوس لهما الشيطان ، فأكلا من الشجرة ، فقوله : فلما ذاقا الشجرة ترتيب على دلاهما بغرور فحذفت الجملة واستغني عنها بإيراد الاسم الظاهر في جملة شرط لما ، والتقدير : فأكلا منها ، كما ورد مصرحا به في سورة البقرة ، فلما ذاقاها بدت لهما سوآتهما .

والذوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللسان ، وهو يحصل عند [ ص: 62 ] ابتداء الأكل أو الشرب ، ودلت هذه الآية على أن بدو سوآتهما حصل عند أول إدراك طعم الشجرة ، دلالة على سرعة ترتب الأمر المحذور عند أول المخالفة ، فزادت هذه الآية على آية البقرة .

وهذه أول وسوسة صدرت عن الشيطان . وأول تضليل منه للإنسان .

وقد أفادت لما توقيت بدو سوآتهما بوقت ذوقهما الشجرة ، لأن لما حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره ، فهي لمجرد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها ، وهذا معنى قولهم : حرف وجود لوجود فاللام في قولهم لوجود بمعنى عند ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين ، يريد باعتبار أصلها ، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على المؤقت ، شابهت أدوات الشرط فقالوا : حرف وجود لوجود كما قالوا في لو : حرف امتناع لامتناع ، وفي لولا : حرف امتناع لوجود ، ولكن اللام في عبارة النحاة في تفسير معنى لو ولولا ، هي لام التعليل ، بخلافها في عبارتهم في " لما " لأن " لما " لا دلالة لها على سبب ألا ترى قوله تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض ، ولكن لما كان بين السبب والمسبب تقارن كثر في شرط " لما " وجوابها معنى السببية دون اطراد ، فقوله تعالى : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما لا يدل على أكثر من حصول ظهور السوآت عند ذوق الشجرة ، أي أن الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت ، ولكن هذا التقارن هو لكون الأمرين مسببين عن سبب واحد ، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشيطان فيهما ، فسبب الإقدام على المخالفة للتعاليم الصالحة ، والشعور بالنقيصة ، فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم ، وسلامة الفطرة ، شبيهين بالملائكة لا يقدمان على مفسدة [ ص: 63 ] ولا مضرة ، ولا يعرضان عن نصح ناصح علما صدقه ، إلى خبر مخبر يشكان في صدقه ، ويتوقعان غروره ، ولا يشعران بالسوء في الأفعال ، ولا في ذرائعها ومقارناتها . لأن الله خلقهما في عالم ملكي ، ثم تطورت عقليتهما إلى طور التصرف في تغيير الوجدان ، فتكون فيهما فعل ما نهيا عنه ، ونشأ من ذلك التطور الشعور بالسوء للغير ، وبالسوء للنفس ، والشعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء ، وتقارن السوء وتلازمه .

ثم إن كان " السوآت " بمعنى ما يسوء من النقائص ، أو كان بمعنى العورات كما تقدم في قوله تعالى : ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما فبدو ذلك لهما مقارن ذوق الشجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذ النصيحة إلى الاقتداء بالغرور والاغترار بقسمه ، فإنهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل ، وإرادة الإقدام عليه ، قارنت تلك الكيفية الباعثة على الفعل نشأة الانفعال بالأشياء السيئة ، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيئة ، أو تكون ذريعة إليها ، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل ، ومن فكرة السرقة معرفة المكان الذي يختفي فيه ، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه ، وإن لم تكن سيئة ، في ذاتها ، كما تنشأ معرفة الليل من فكرة السرقة أو الفرار ، فتنشأ في نفوس الناس كراهيته ونسبته إلى إصدار الشرور ، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصهما فهي من قبيل القسمين ، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثاني ، أعني الشيء المقارن لما يسوء ، لأن العورة تقارن فعلا سيئا من النقائص المحسوسة ، والله أوجدها سبب مصالح ، فلم يشعر آدم وزوجه بشيء مما خلقت لأجله ، وإنما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكل ذلك نشأ بإلهام من الله تعالى ، وهذا التطور الذي أشارت إليه الآية ، قد جعله الله تطورا فطريا في ذرية آدم ، فالطفل في أول عمره يكون بريئا من خواطر السوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلا إذا لحق به مؤلم خارجي ، [ ص: 64 ] ثم إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولدها ، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه .

وقوله : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه ، وتحيله على تجنب ما يكرهه ، وعلى تحسين حاله بحسب ما يخيل إليه خياله ، وهذا أول مظهر من مظاهر الحضارة أنشأه الله في عقلي أصلي البشر ، فإنهما لما شعرا بسوآتهما بكلا المعنيين ، عرفا بعض جزئياتها ، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشعور بقبح بروزها ، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعا وكراهية ، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري ، حيث لا ملقن يلقنهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تقرر في نفوس الناس أن كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأن سترها متعين ، وهذا من حكم القوة الواهمة الذي قارن البشر في نشأته ، فدل على أنه وهم فطري متأصل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقر في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوة الواهمة سلطانا على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأن في اتباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزع الجلافة الحيوانية من النوع ، لأن الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثم أخذت الشرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربين ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجا مع الزمان ، ولا يبقون منها إلا ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتى جاء الإسلام وهو الشريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهمية ملغى في غالب الأحكام ، كما فصلته في كتاب مقاصد الشريعة وكتاب " أصول نظام الاجتماع في الإسلام " .

والخصف حقيقته تقوية الطبقة من النعل بطبقة أخرى لتشتد ، ويستعمل مجازا مرسلا في مطلق التقوية للخرقة والثوب ، ومنه ثوب خصيف أي مخصوف أي غليظ النسج لا يشف عما تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورق بعضه على بعض كفعل الخاصف وضعا ملزقا متمكنا ، وهذا هو الظاهر هنا إذ لم يقل يخصفان ورق الجنة .

[ ص: 65 ] و من في قوله : من ورق الجنة يجوز كونها اسما بمعنى بعض في موضع مفعول يخصفان أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : من الذين هادوا يحرفون ، ويجوز كونها بيانية لمفعول محذوف يقتضيه : يخصفان والتقدير : يخصفان خصفا من ورق الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية