الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
43 [ ص: 217 ] حديث ثان لصفوان بن سليم ، مسند

مالك عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة - من آل بني الأزرق - عن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني عبد الدار - أنه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ من ماء البحر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته .

التالي السابق


قال أبو عمر : قد مضى ذكر صفوان بن سليم وحاله في أول بابه ، أما سعيد بن سلمة فلم يرو عنه - فيما علمت - إلا صفوان بن سليم ، والله أعلم . يقال : إنه مخزومي من آل ابن الأزرق أو بني الأزرق ، ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عندهم ، وأما المغيرة بن أبي بردة فهو [ ص: 218 ] المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة ، قيل : إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة ، وقيل : ليس بمجهول .

قال أبو حاتم الرازي : روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وروى صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عنه ، وروى الجلاح عن عبد الله بن سعيد المخزومي عنه .

قال أبو عمر : المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب ، وكان موسى يستعمله على الخيل ، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر ، وقد سأل أبو عيسى الترمذي محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم ، فقال : هو عندي حديث صحيح .

قال أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي : فقلت للبخاري : هشيم يقول فيه : المغيرة بن أبي برزة ؟ فقال : وهم فيه ، إنما هو المغيرة بن أبي بردة . قال : وهشيم ربما وهم في الإسناد ، وهو في المقطعات أحفظ .

قال أبو عمر : لا أدري ما هذا من البخاري - رحمه الله - ولو كان عنده صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده ، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد ، وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده ، وهو عندي صحيح ; لأن [ ص: 219 ] العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به ، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء ، وإنما الخلاف في بعض معانيه على ما نذكر إن شاء الله .

حدثنا أبو عثمان سعيد بن نصر ، وأبو عثمان النحوي ، قالا : حدثنا أبو عمر أحمد بن دحيم بن خليل ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي ، قال : حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن رجل من أهل المغرب يقال له : المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، إنا نركب أرماثا في البحر ، ويحمل أحدنا مويها لسقيه ، فإن توضأنا به عطشنا ، وإن توضأنا بماء البحر وجدنا في أنفسنا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

[ ص: 220 ] قال أبو عمر : أرسل يحيى بن سعيد الأنصاري هذا الحديث عن المغيرة بن أبي بردة ، لم يذكر أبا هريرة ، ويحيى بن سعيد أحد الأئمة في الفقه والحديث ، وليس يقاس به سعيد بن سلمة ولا أمثاله ، وهو أحفظ من صفوان بن سليم ، وفي رواية يحيى بن سعيد لهذا الحديث ما يدل على أن سعيد بن سلمة لم يكن بمعروف من الحديث عند أهله ، وقد روي هذا الحديث عن يحيى بن سعيد ، عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والصواب فيه عن يحيى بن سعيد : ما رواه عنه ابن عيينة مرسلا كما ذكرنا ، والله أعلم . وقد روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث الفراسي . رجل من بني فراس مذكور في الصحابة .

حدثنا خلف بن قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي بمصر ، قال : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج القطان ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدثني الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن بكر بن سوادة ، عن مسلم بن مخشي أنه حدث أن الفراسي قال : كنت أصيد في البحر الأخضر على أرماث ، وكنت أحمل قربة فيها ماء ، فإذا لم أتوضأ من القربة رفق ذلك بي وبقيت لي ، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصت عليه ذلك وقلت : أنتوضأ من ماء البحر يا رسول الله ؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

[ ص: 221 ] وقد أجمع جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتيا بالأمصار من الفقهاء ، أن البحر طهور ماؤه ، وأن الوضوء جائز به ، إلا ما روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فإنه روي عنهما أنهما كرها الوضوء من ماء البحر ، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ، ولا عرج عليه ، ولا التفت إليه ; لحديث هذا الباب عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

وهذا يدلك على استشهار الحديث عندهم ، وعملهم به ، وقبولهم له ، وهذا أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة بمعنى ترده الأصول . وبالله التوفيق .

وقد خالفهما ابن عباس ، حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن جامع ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا خلف بن موسى بن خلف العمي ، قال : حدثنا أبي عن قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي ، قال : سألت ابن عباس عن الوضوء بماء البحر ، وقال : هما البحران فلا تبالي بأيهما توضأت .

وفي حديث هذا الباب من الفقه : إباحة ركوب البحر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كره ركوبه لنهى عنه الذين قالوا : إنا نركب البحر ، وقولهم هذا يدل على أن ذلك كان كثيرا ما يركبونه ; لطلب الرزق من أنواع التجارة وغيرها ، وللجهاد وسائر ما فيه إباحة وفضيلة ، والله أعلم . فلم ينههم عن ركوبه ، وهذا عندي إنما يكون لمن سهل ذلك عليه ، ولم يشق عليه ويصعب به كالمائد المفرط الميد ، أو من لا يقدر معه على أداء فروض الصلاة ونحوها من الفرائض ، ولا يجوز عند أهل العلم ركوب البحر في حين ارتجاجه ، ولا في [ ص: 222 ] الزمن الذي الأغلب منه عدم السلامة فيه والعطب والهلاك ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمان تكون السلامة فيه الأغلب ، والله أعلم .

وفي قول الله عز وجل : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ) وقوله تعالى : ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) ما فيه كفاية ودلالة واضحة في إباحة ركوب البحر إذا كان كما وصفنا . وبالله توفيقنا .

وأما ما جاء عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهما من السلف أنهم كانوا ينهون عن ركوب البحر ، فإنما ذلك على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الاستكثار من الدنيا والرغبة في المال . والله أعلم .

وإذا جاز ركوب البحر في الجهاد وطلب المعيشة ، فركوبه للحج في أداء الفرض أجوز لمن قدر على ذلك وسهل عليه ، وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما يبين لي أن أوجب الحج على من وراء البحر ، ولا أدري كيف استطاعته .

قال أبو عمر : قد أجمع العلماء على أن من بينه وبين مكة من اللصوص والفتن ما يقطع الطريق ويخاف منه في الأغلب ذهاب المهجة والمال - فليس ممن استطاع إليه سبيلا ، فكذلك أهوال البحر ، والله أعلم .

[ ص: 223 ] وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن المسافر إذا لم يكن معه من الماء إلا ما يكفيه لشربه ، وما لا غنى به عنه لشفته ، أنه جائز له أن يتيمم ويترك ذلك الماء لنفسه حتى يجد الماء ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : الحل ميتته . يقال : حل وحلال ، وحرم وحرام - بمعنى واحد ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، فقال مالك : يؤكل ما في البحر من السمك والدواب ، وسائر ما في البحر من الحيوان ، وسواء اصطيد أو وجد ميتا طافيا وغير طاف ، قال : وليس شيء من ذلك يحتاج إلى ذكاة ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته وكره مالك خنزير الماء من جهة اسمه ، ولم يحرمه ، وقال : أنتم تقولون خنزير ، قال ابن القاسم : أنا أتقيه ولا أراه حراما .

وقال ابن أبي ليلى : لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر من الضفدع والسرطان وحية الماء ، وغير ذلك ، وهو قول الثوري في رواية الأشجعي .

وروى عنه أبو إسحاق الفزاري أنه قال : لا يؤكل من صيد البحر إلا السمك .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل السمك الطافي ، ويؤكل ما سواه من السمك ، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك .

وقال الأوزاعي : صيد البحر كله حلال ، ورواه عن مجاهد ، وكره الحسن بن حي أكل الطافي من السمك ، وقال الليث [ ص: 224 ] بن سعد : ليس بميتة البحر بأس ، قال : وكذلك كلب الماء وترس الماء . قال : ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء .

وقال الشافعي : ما يعيش في الماء فلا بأس بأكله - وأخذه ذكاته - ولا بأس بخنزير الماء .

قال أبو عمر : قال الله عز وجل ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ) فروي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة قالوا : طعامه ما ألقى وقذف .

وروي عن ابن عباس أنه قال : طعامه ميتته . وهو في ذلك المعنى ، وروي عنه أنه قال : طعامه مليحه .

وروي عن أبي بكر الصديق قال : كل دابة في البحر فقد ذبحها الله لكم .

ذكر عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، قال : كل دابة في البحر قد ذبحها الله لك فكلها [ ص: 225 ] قال : وأخبرنا الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها .

وروي عن علي بن أبي طالب أنه كره الطافي من السمك ، وروي عنه أنه كره أكل الجري من وجه لا يثبت ، وروي عنه أنه لا بأس بأكل ذلك كله ، وهو أصح عنه .

ذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن علي رضي الله عنه ، قال : الجراد والحيتان ذكي كله فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ، ولم يختلف عن جابر أنه كره أكل الطافي من السمك ، وهو قول طاوس ، ومحمد بن سيرين ، وجابر بن زيد ، وأبي حنيفة وأصحابه ، واحتج لهم من أجاز ذلك بما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن عبدة ، قال : أخبرنا يحيى بن سليم الطائفي ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه .

[ ص: 226 ] قال أبو داود : روى هذا الحديث سفيان الثوري ، وأيوب السختياني ، وحماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، وحجة مالك والشافعي في هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد مما هو حجة لمالك والشافعي ، حديث ابن عمر وحديث جابر : حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو ثابت المدني ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثني عمر بن محمد ، أن نافعا حدثه ، أن ابن عمر قال : غزونا ، فجعنا حتى إنا لنقسم التمرة والتمرتين ، فبينما نحن على شاطئ البحر ، إذ رمى البحر بحوت ميتة ، فاقتطع الناس منه ما شاءوا من شحم ولحم وهو مثل الظرب ، فبلغني أن الناس لما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه فقال : هل معكم منه شيء ؟ .

وأما حديث جابر : فحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية وأمر علينا أبا [ ص: 227 ] عبيدة بن الجراح ، وزودنا جرابا من تمر ، فكان يقسمه بيننا قبضة قبضة ، ثم أقام ذلك حتى صار تمرة تمرة ، فلما فقدناها وجدنا فقدها ، فمررنا بساحل البحر ، فإذا حوت يقال له : العنبر . ميت ، فأردنا أن نجاوزه ، ثم قلنا : نحن جيش رسول الله ، فأقمنا عليه عشرين ليلة نأكل منه ، وادهنا من ذلك الشحم ، ولقد قعد في عينه ثلاثة عشر رجلا منا ، فلما قدمنا ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : رزق ساقه الله إليكم ، فهل عندكم منه شيء ؟ .

ففي هذا الحديث - وهو من أثبت الأحاديث - دليل على أن ما قذف البحر أو مات فيه من دابة وسمكة - حلال كله ، ولهذا الحديث طرق كثيرة ، قد ذكرنا كثيرا منها في غير هذا الموضع ، وفيه ما يصحح حديث صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة ، وأن حديث سعيد بن سلمة له أصل في رواية الثقات .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا النفيلي ، حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح يعطينا تمرة تمرة ، كنا نمصها كما يمص الصبي ، ثم نشرب عليها من الماء ، فتكفينا يومنا [ ص: 228 ] إلى الليل ، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله ، قال : فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر ، فقال أبو عبيدة : ميتة ولا تحل لنا ، ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا ، فأقمنا عليها شهرا - ونحن ثلاثمائة - حتى سمنا ، فلما قدمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتعطونا ؟ فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكل .




الخدمات العلمية