الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 70 ] المقدمة الثامنة في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها

هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن . وله اتصال متين بالتفسير ; لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور ، ومناسبة بعضها لبعض فيغني المفسر عن إعادته .

معلوم لك أن موضوع علم التفسير هو القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدى وآداب وإصلاح حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها ، بفهم دلالته اللغوية والبلاغية . فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به ، ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرأوه منه في صلواتهم ، وجعل قراءته عبادة .

وجعله كذلك آية على صدق الرسول في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة بأن تحدى منكريه والمترددين فيه من العرب وهم المخاطبون به الأولون بأنهم لا يستطيعون معارضته ، ودعاهم إليها فلم يفعلوا . دعاهم أول الأمر إلى الإتيان بعشر سور مثله فقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله سورة هود . ثم استنزلهم إلى أهون من ذلك عليهم فقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه سورة يونس ثم جاء بأصرح من ذلك وأنذرهم بأنهم ليسوا بآتين بذلك فقال في سورة البقرة وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار الآية . وقال وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون سورة العنكبوت [ ص: 71 ] وقد بين النبيء صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وفي هذا الحديث معان جليلة ليس هذا مقام بيانها وقد شرحتها في تعليقي على صحيح البخاري المسمى " النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح " .

فالقرآن اسم للكلام الموحى به إلى النبيء صلى الله عليه وسلم ، وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة ، أولاها الفاتحة وأخراها سورة الناس . صار هذا الاسم علما على هذا الوحي . وهو على وزن " فعلان " وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل " غفران ، وشكران وبهتان " ، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان وحسان وعدنان ، واسم قرآن صالح للاعتبارين لأنه مشتق من القراءة لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي اقرأ باسم ربك الآية . وقال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا فهمزة قرآن أصلية ووزنه فعلان ، ولذلك اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ قرآن مهموزا حيثما وقع في التنزيل ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز وهي لغة حجازية ، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته . وقيل هو قرآن بوزن فعال ، من القرن بين الأشياء أي الجمع بينها لأنه قرنت سوره بعضها ببعض وكذلك آياته وحروفه وسمي كتاب الله قرآنا كما سمي الإنجيل الإنجيل ، وليس مأخوذا من قرأت ، ولهذا يهمز قرأت ولا يهمز القرآن فتكون قراءة ابن كثير جارية على أنه اسم آخر لكتاب الله على هذا الوجه . ومن الناس من زعم أن قرآن جمع قرينة أي اسم جمع ، إذ لا يجمع مثل قرينة على وزن فعال في التكثير فإن الجموع الواردة على وزن فعال محصورة ليس هذا منها ، والقرينة العلامة ، قالوا لأن آياته يصدق بعضها بعضا فهي قرائن على الصدق .

فاسم القرآن هو الاسم الذي جعل علما على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله ، وهو أشهر أسمائه وأكثرها ورودا في آياته وأشهرها دورانا على ألسنة السلف .

[ ص: 72 ] وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف أو أجناس أنهاها في الإتقان إلى نيف وعشرين . والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة : التنزيل ، والكتاب ، والفرقان ، والذكر ، والوحي ، وكلام الله .

فأما الفرقان فهو في الأصل اسم لما يفرق به بين الحق والباطل وهو مصدر ، وقد وصف يوم بدر بيوم الفرقان ، وأطلق على القرآن في قوله تعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وقد جعل هذا الاسم علما على القرآن بالغلبة ، مثل التوراة على الكتاب الذي جاء به موسى والإنجيل على الوحي الذي أنزل على عيسى ، قال تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات إلى قوله وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل ، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها ، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى ليس كمثله شيء وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا ، وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم الآيات من سورة محمد فلما وصفهم القرآن قال كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية آل عمران فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال .

وأما إن افتقدت ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرأة من اللبس وبعيدة عن تطرق الشبهة ، وحسبك قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل .

وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وسيأتي بيان هذا في أول آل عمران .

وأما التنزيل فهو مصدر نزل ، أطلق على المنزل باعتبار أن ألفاظ القرآن أنزلت من السماء [ ص: 73 ] قال تعالى تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ، وقال تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين وأما الكتاب فأصله اسم جنس مطلق ومعهود . وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى ذلك الكتاب لا ريب فيه وقال الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة ، فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها ، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم ، ولأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم .

وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف قال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها وقال وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون وغير ذلك ، ولذلك اتخذ النبيء صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه ; من أول ما ابتدئ نزوله ، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبي سفيان . وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف .

وأما الذكر فقال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم أي لتبينه للناس ، وذلك أنه تذكير بما يجب على الناس اعتقاده والعمل به . وأما الوحي فقال تعالى قل إنما أنذركم بالوحي ، ووجه هذه التسمية أنه ألقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك ، وذلك الإلقاء يسمى وحيا لأنه يترجم عن مراد الله تعالى فهو كالكلام المترجم عن مراد الإنسان ، ولأنه لم يكن تأليف تراكيبه من فعل البشر .

وأما كلام الله فقال تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله واعلم أن أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة : التمسوا اسما ، فقال بعضهم : سموه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى ، [ ص: 74 ] وقال بعضهم سموه السفر ، فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السفر . فقال عبد الله بن مسعود : رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه مصحفا يعني أنه رأى كتابا غير الإنجيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية