الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى

استئناف ثالث ، مفتتح بالأمر بالقول ، يتنزل منزلة النتيجة لما قبله ، لأنه لما علم أن الله هداه إلى صراط مستقيم ، وأنقذه من الشرك ، وأمره بأن يمحض عبادته وطاعته لربه تعالى ، شكرا على الهداية ، أتبع ذلك بأن ينكر أن يعبد غير الله تعالى لأن واهب النعم هو مستحق الشكر ، والعبادة جماع مراتب الشكر ، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عبدوا غيره . وإعادة الأمر بالقول تقدم بيان وجهه .

[ ص: 206 ] والاستفهام إنكار عليهم لأنهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم ، وقد حاولوا من ذلك غير مرة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه ، فهم دائمون على الرغبة في موافقتهم على دينهم ، حكى ابن عطية عن النقاش أن الكفار قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك وأن هذه الآية نزلت في ذلك .

وقدم المفعول على فعله لأنه المقصود من الاستفهام الإنكاري ، لأن محل الإنكار هو أن يكون غير الله يبتغى له ربا ، ولأن ذلك هو المقصود من الجواب إذا صح أن المشركين دعوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجب أو لموجبين ، كما تقدم في قوله تعالى : قل أغير الله أتخذ وليا في هذه السورة .

وجملة : وهو رب كل شيء في موضع الحال ، وهو الحال معلل للإنكار ، أي أن الله خالق كل شيء وذلك باعترافهم ، لأنهم لا يدعون أن الأصنام خالقة لشيء ، ، كما قال تعالى : لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له فلما كان الله خالق كل شيء وربه فلا حق لغيره في أن يعبده الخلائق وعبادة غيره ظلم عظيم ، وكفر بنعمه ، لأن الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم ، فإن مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبودية .

وإنما قيل " وهو رب كل شيء " ، ولم يقل : وهو ربي ، لإثبات أنه ربه بطريق الاستدلال لكونه إثبات حكم عام يشمل حكم المقصود الخاص ، ولإفادة أن أربابهم غير حقيقة بالربوبية أيضا لله تعالى .

وقوله : " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " من القول المأمور به ، مفيد متاركة للمشركين ومقتا لهم بأن عنادهم لا يضره ، فإن ما اقترفوه من [ ص: 207 ] الشرك لا يناله منه شيء فإنما كسب كل نفس عليها ، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم . فالتعليم في الحكم الواقع في قوله : " كل نفس " فائدته مثل فائدة التعميم الواقع في قوله : وهو رب كل شيء .

ودلت كلمة " على " على أن مفعول الكسب المحذوف تقديره : شرا ، أو إثما ، أو نحو ذلك ، لأن شأن المخاطبين هو اكتساب الشر والإثم كقوله : ما عليك من حسابهم من شيء ولك أن تجعل في الكلام احتباكا لدلالة الثاني وبالعكس إذا جريت على أن " كسب " يغلب في تحصيل الخير ، وأن اكتسب يغلب في تحصيل الشر ، سواء اجتمع الفعلان أم لم يجتمعا . ولا أحسب بين الفعلين فرقا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . والمعنى : أن ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره .

وقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى تكملة لمعنى قوله : " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " فكما أن ما تكسبه نفس لا يتعدى منه شيء إلى غيرها ، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئا ، والمعنى : ولا أحمل أوزاركم .

فقوله : " وازرة " صفة لموصوف محذوف تقديره : نفس ، دل عليه قوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى .

والوزر : الحمل ، وهو ما يحمله المرء على ظهره ، قال تعالى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : [ ص: 208 ] وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون . وأما تسمية الإثم وزرا فلأنه يتخيل ثقيلا على نفس المؤمن . فمعنى ولا تزر وازرة لا تحمل حاملة ، أي لا تحمل نفس حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها ، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئا تحمله عنها . أي كل نفس تزر وزر نفسها ، فيفيد أن وزر كل أحد عليه وأنه لا يحمل غيره عنه شيئا من وزره الذي وزره ، وأنه لا تبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق ، فلا تغني نفس عن نفس شيئا ، ولا تتبع نفس بإثم غيرها ، فهي إن حملت لا تحمل حمل غيرها . وهذا إتمام لمعنى المشاركة .

التالي السابق


الخدمات العلمية