الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون

من عادة القرآن أنه إذا أنذر أعقب الإنذار لمن لا يحق عليه ذلك الإنذار ، وإذا بشر أعقب البشارة لمن يتصف بضد ما بشر عليه ، وقد جرى على ذلك هاهنا : فإنه لما أنذر المؤمنين وحذرهم من التريث في اكتساب الخير ، قبل أن يأتي بعض آيات الله القاهرة ، بقوله : [ ص: 195 ] " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " فحد لهم بذلك حدا هو من مظهر عدله ، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعدله . وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيئة بمثلها ، فقوله : " من جاء بالحسنة " إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الأنفال بين الأغراض .

فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله : " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " الآية ، كما تقدم آنفا .

و جاء بالحسنة معناه عمل الحسنة : شبه عمله الحسن بحال المكتسب ، إذ يخرج يطلب رزقا من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء . وهذا كما استعير له اسم التجارة في قوله تعالى : " فما ربحت تجارتهم .

فالباء للمصاحبة ، والكلام تمثيل ، ويجوز حمل المجيء على حقيقته ، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابها في صحيفة أعماله .

وأمثال الحسنة ثواب أمثالها ، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله : فلا يجزى إلا مثلها ، أو معناه تحسب له عشر حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث : كتبها الله عنده عشر حسنات ويعرف من ذلك أن الثواب على نحو ذلك الحساب كما دل عليه قوله فلا يجزى إلا مثلها .

والأمثال : جمع مثل وهو المماثل المساوي ، وجيء له باسم عدد المؤنث وهو عشر اعتبارا بأن الأمثال صفة لموصوف محذوف دل عليه الحسنة [ ص: 196 ] أي فله عشر حسنات أمثالها ، فروعي في اسم العدد معنى مميزه دون لفظه وهو أمثال . والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضل من الله ، وهو جزاء غالب الحسنات . وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فذلك خاص بالإنفاق في الجهاد . وفي الحديث : من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .

وقرأ الجمهور : عشر أمثالها بإضافة عشر إلى أمثالها وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وقرأ يعقوب بتنوين عشر ورفع أمثالها ، على أنه صفة لعشر ، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها .

ومماثلة الجزاء للحسنة موكولة إلى علم الله تعالى وفضله .

وإنما قال في جانب السيئة " فلا يجزى إلا مثلها " بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النفي ، اهتماما به ، لإظهار العدل الإلهي ، فالحصر حقيقي ، وليس في الحصر الحقيقي رد اعتقاد بل هو إخبار عما في نفس الأمر ، ولذلك كان يساويه أن يقال : ومن جاء بالسيئة فيجزى مثلها ، لولا الاهتمام بجانب نفي الزيادة على المماثلة . ونظيره قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - حين سألته هند بنت عتبة فقالت : إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ، فقال لها : لا إلا بالمعروف ولم يقل لها : أطعميهم بالمعروف . وقد جاء على هذا المعنى قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ; فأكدها بواحدة تحقيقا لعدم الزيادة في جزاء السيئة .

[ ص: 197 ] ولذلك أعقبه بقوله : " وهم لا يظلمون " والضمير يعود إلى من جاء بالسيئة ، إظهارا للعدل ، فلذلك سجل الله عليهم بأن هذا لا ظلم فيه لينصفوا من أنفسهم . وأما عد عود الضميرين إلى الفريقين فلا يناسبه فريق أصحاب الحسنات ، لأنه لا يحسن أن يقال للذي أكرم وأفيض عليه الخير إنه غير مظلوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية