الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وليس في أربع من الإبل السائمة صدقة لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فلا زكاة عليه وإذا كانت خمسا ففيها شاة } على هذا اتفقت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعت الأمة ، وقيل : المعنى فيه أن العبرة للقيمة في المقادير ، فإن الشاة تقوم بخمسة دراهم في ذلك الوقت وبنت المخاض بأربعين درهما فإيجاب الزكاة في خمس من الإبل كإيجاب الزكاة في مائتي درهم . وإن أدنى الأسباب التي تجب فيها الزكاة من الإبل بنت مخاض وفي العشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وعلى هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء رحمهم الله إلا ما روي شاذا عن علي رضي الله عنه أنه قال في خمس وعشرين خمس شياه وفي ست وعشرين بنت مخاض قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى وهذا غلط وقع من رجال علي رضي الله عنه ، أما علي رضي الله عنه ، فإنه كان أفقه من أن يقول هكذا ; لأن في هذا موالاة بين الواجبين بلا وقص بينهما وهو خلاف أصول الزكاة ، فإن مبنى الزكاة على أن الوقص يتلو الواجب وعلى أن الواجب يتلو الوقص وفي ست وثلاثين بنت لبون وفي ست وأربعين حقة وفي إحدى وستين جذعة وهي أعلى الأسنان التي تؤخذ في زكاة الإبل ; لأن ما بعدها ثني وسديس وبازل وبازل عام وبازل عامين ولا يجب شيء من ذلك في الزكاة { لنهي النبي صلى الله عليه وسلم السعاة عن أخذ كرائم أموال الناس } .

وبنت المخاض التي تم لها سنة وطعنت في الثانية سميت به لمعنى في أمها ، فإنها صارت مخاضا [ ص: 151 ] أي حاملا قال الله تعالى { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } . وبنت اللبون التي تم لها سنتان وطعنت في الثالثة سميت به لمعنى بها في أمها ، فإنها لبون بولادة أخرى . والحقة التي لها ثلاث سنين وطعنت في الرابعة سميت به لمعنى فيها وهو أنه حق لها أن تركب ويحمل عليها . والجذعة التي تم لها أربع سنين وطعنت في الخامسة سميت به لمعنى في أسنانها معروف عند أرباب الإبل ثم بعد ذلك يزاد القدر بزيادة الإبل فيجب في ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة وعلى هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء - رحمهم الله تعالى - ثم الاختلاف بينهم بعد ذلك ، فالمذهب عندنا استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإذا بلغت الزيادة خمسا ففيها حقتان وشاة إلى مائة وثلاثين ففيها حقتان وشاتان وفي مائة وخمس وثلاثين حقتان وثلاث شياه وفي مائة وأربعين حقتان وأربع شياه وفي مائة وخمس وأربعين حقتان وبنت مخاض إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق ، ثم تستأنف الفريضة فيجب في مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشاة وفي مائة وستين ثلاث حقاق وشاتان وفي مائة وخمس وستين ثلاث حقاق وثلاث شياه وفي مائة وسبعين ثلاث حقاق وأربع شياه وفي مائة وخمس وسبعين ثلاث حقاق وبنت مخاض وفي مائة وست وثمانين ثلاث حقاق وبنت لبون وفي مائة وست وتسعين أربع حقاق إلى مائتين ، فإن شاء أدى عنها أربع حقاق عن كل خمسين حقة وإن شاء خمس بنات لبون عن كل أربعين بنت لبون ، ثم تستأنف كما بينا ، وقال مالك رحمه الله بعد مائة وعشرين يجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ، والأوقاص تسع تسع فلا يجب في الزيادة شيء حتى تكون مائة وثلاثين ففيها حقة وبنت لبون ; لأنها مرة خمسون ومرتين أربعون وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق وفي مائة وستين أربع بنات لبون وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون إلى مائتين ، فإن شاء أدى أربع حقاق وإن شاء خمس بنات لبون .

وقال الشافعي رضي الله عنه مثل قول مالك رضي الله عنه إلا في حرف واحد وهو أن عند الشافعي رحمه الله تعالى إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى مائة وثلاثين ، ثم مذهبه كمذهب مالك رحمه الله تعالى وعند مالك لا يجب شيء حتى تكون الإبل مائة وثلاثين وحجتهما في ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة وقربه [ ص: 152 ] بقراب سيفه ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض فعمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قبضا وكان فيه إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة } إلا أن مالكا رحمه الله حمله على الزيادة التي يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها ، وذلك لا يكون فيما دون العشرة والشافعي رحمه الله تعالى يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علق هذا الحكم بنفس الزيادة ، وذلك بزيادة الواحدة فعندها يوجب في كل أربعين بنت لبون وهذه الواحدة لتعيين الواجب بها فلا يكون لها حظ من الواجب . واستدل عليه بالحديث الذي ذكره أبو داود وابن المبارك - رحمهما الله تعالى - بالإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم { إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون } وهذا نص في الباب والمعنى فيه أن الواجب في كل مال من جنسه ، فإن الواجب جزء من المال إلا أن الشرع عند قلة الإبل أوجب من خلاف الجنس نظرا للجانبين ، فإن خمسا من الإبل مال عظيم ففي إخلائه عن الواجب إضرار بالفقراء ، وفي إيجاب الواحدة إجحاف بأرباب الأموال ، وكذلك في إيجاب الشقص ، فإن الشركة عيب فأوجب من خلاف الجنس دفعا للضرر وقد ارتفعت هذه الضرورة عند كثرة الإبل فلا معنى لإيجاب خلاف الجنس . ومبنى الزكاة على أن عند كثرة العدد وكثرة المال يستقر النصاب والوقص والواجب على شيء معلوم كما في زكاة الغنم عند كثرة العدد يجب في كل مائة شاة ، ثم أعدل الأسنان بنت اللبون والحقاق ، فإن أدناها بنت المخاض وأعلاها الجذعة والأعدل هو الأوسط ، وكذلك أعدل الأوقاص هو العشر ، فإن الأوقاص في الابتداء خمس ، وفي الانتهاء خمسة عشر فالمتوسط هو العشر وهو الأعدل فلهذا أوجبنا في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة .

( ولنا ) حديث قيس بن سعد - رحمه الله تعالى - قال قلت لأبي بكر محمد بن عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنهم أخرج لي { كتاب الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم فأخرج كتابا في ورقة وفيه إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود شاة } . وروي بطريق شاذ { إذا زادت الإبل على مائة وعشرين فليس في الزيادة شيء حتى تكون خمسا فإذا كانت مائة وخمسا وعشرين ففيها حقتان وشاة } وهذا نص ولكنه شاذ .

والقول باستقبال الفريضة بعد مائة وعشرين مشهور عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، ثم نقول وجوب الحقتين في مائة وعشرين ثابت باتفاق الآثار وإجماع الأمة فلا يجوز [ ص: 153 ] إسقاطه إلا بمثله وبعد مائة وعشرين اختلفت الآثار فلا يجوز إسقاط ذلك الواجب عند اختلاف الآثار بل يؤخذ بحديث عمرو بن حزم رضي الله عنه ويحمل حديث ابن عمر رضي الله عنه على الزيادة الكبيرة حتى يبلغ مائتين وبه نقول إن في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة وحديث ابن المبارك رحمه الله تعالى محمول على ما إذا كانت مائة وعشرين من الإبل بين ثلاثة نفر لأحدهم خمس وثلاثون وللآخر أربعون وللآخر خمس وأربعون ، فإذا زادت لصاحب الخمس وثلاثين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون وهذا التأويل وإن كان فيه بعض بعد فالقول به أولى مما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى ، فإنه أوجب ثلاث بنات لبون وهو مخالف للآثار المشهورة ، وإن كان لم يجعل لهذه الواحدة حظا من الواجب كما هو مذهبه فهو مخالف لأصول الزكوات ، فإن ما لا حظ له من الواجب لا يتغير به الواجب كما في الحمولة والعلوفة . وحقيقة الكلام في المسألة وهو أن بالإجماع يدار الحكم على الخمسينات والأربعينات ولكن اختلفنا في أن أي الإدارتين أولى ففي حديث عمرو بن حزم رضي الله عنهما أدار على الخمسينات وفيها الحقة ، ولكن بشرط عود ما دونها ، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه على الأربعينات والخمسينات فنقول الأخذ بما كان في حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه أولى ، فإن مبنى أصول الزكاة على أن عند كثرة المال يستقر النصاب على شيء واحد معلوم كما في نصاب البقر ، فإنه يستقر على شيء واحد وهو المسنة في الأربعين ولكن بشرط عود ما دونها وهو التبيع ، فكذلك زكاة الإبل ولهذا لم تعد الجذعة ; لأن الإدارة على الخمسينات ولا يوجد فيها نصاب الجذعة ، فأما ما دون الجذعة فيوجد نصابها في الخمسينات فتعود لهذا ولسنا نسلم احتمال الزيادة الواجب من الجنس ، فإن حكم الزيادة كالمقطوع عن مائة وعشرين لإيفاء الحقتين فيها كما ثبت باتفاق الآثار فلم يكن محتملا للإيجاب من جنسه فلهذا صرنا إلى إيجاب الغنم فيها كما في الابتداء حتى إنه لما أمكن البناء مع إبقاء الحقتين بعد مائة وخمس وأربعين بنينا فنقلنا من بنت المخاض إلى الحقة إذا بلغت مائة وخمسين ، فإنها ثلاث مرات خمسون فيؤخذ من كل خمسين حقة

التالي السابق


الخدمات العلمية