الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده عطف جملة " ولا تقربوا " على الجملة التي فسرت فعل : " أتل " عطف محرمات ترجع إلى حفظ قواعد التعامل بين الناس لإقامة قواعد الجامعة الإسلامية ومدنيتها وتحقيق ثقة الناس بعضهم ببعض .

[ ص: 163 ] وابتدأها بحفظ حق الضعيف الذي لا يستطيع الدفع عن حقه في ماله ، وهو اليتيم ، فقال : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن والقربان كناية عن ملابسة مال اليتيم . والتصرف فيه كما تقدم آنفا في قوله : ولا تقربوا الفواحش .

ولما اقتضى هذا تحريم التصرف في مال اليتيم ، ولو بالخزن والحفظ ، وذلك يعرض ماله للتلف ، استثني منه قوله : إلا بالتي هي أحسن أي إلا بالحالة التي هي أحسن ، فاسم الموصول صفة لموصوف محذوف يقدر مناسبا للموصول الذي هو اسم المؤنث ، فيقدر بالحالة أو الخصلة .

والباء للملابسة ، أي إلا ملابسين للخصلة أو الحالة التي هي أحسن حالات القرب ، ولك أن تقدره بالمرة من تقربوا أي إلا بالقربة التي هي أحسن . وقد التزم حذف الموصوف في مثل هذا التركيب واعتباره مؤنثا يجري مجرى المثل ; ومنه قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن السيئة أي بالخصلة الحسنة ادفع السيئة ، ومن هذا القبيل أنهم أتوا بالموصول مؤنثا وصفا لمحذوف ملتزم الحذف وحذفوا صلته أيضا في قولهم في المثل : بعد اللتيا والتي ، أي بعد الداهية الحقيرة والداهية الجليلة كما قال سلمي بن ربيعة الضبي :

ولقد رأيت ثأي العشيرة بينها 206 وكفيت جانبها اللتيا

والتي و " أحسن " اسم تفضيل مسلوب المفاضلة ، أي الحسنة ، وهي النافعة التي لا ضر فيها لليتيم ولا لماله . وإنما قال هنا : ولا تقربوا تحذيرا من أخذ ماله ولو بأقل أحوال الأخذ لأنه لا يدفع عن نفسه ، ولذلك لم يقل هنا : ولا تأكلوا كما قال في سورة البقرة : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .

والأشد : اسم يدل على قوة الإنسان ، وهو مشتق من الشد وهو التوثق ، [ ص: 164 ] والمراد به في هذه الآية ونظائرها ، مما الكلام فيه على اليتيم ، بلوغه القوة التي يخرج بها من ضعف الصبا ، وتلك هي البلوغ مع صحة العقل ، لأن المقصود بلوغه أهلية التصرف في ماله . وما منع الصبي من التصرف في المال إلا لضعف في عقله بخلاف المراد منه في أوصاف الرجال فإنه يعني به بلوغ الرجل منتهى حد القوة في الرجال وهو الأربعين سنة إلى الخمسين قال تعالى : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة وقال سحيم بن وثيل :

أخو خمسين مجتمع أشدي     ونجذني مداورة الشئون

والبلوغ : الوصول ، وهو هنا مجاز في التدرج في أطوار القوة المخرجة من وهن الصبا .

و حتى غاية للمستثنى : وهو القربان بالتي هي أحسن ، أي التصرف فيه إلى أن يبلغ صاحبه أشده أي فيسلم إليه ، كما قال تعالى في الآية الأخرى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم الآية .

ووجه تخصيص حق اليتيم في ماله بالحفظ : أن ذلك الحق مظنة الاعتداء عليه من الولي ، وهو مظنة انعدام المدافع عنه ، لأنه ما من ضعيف عندهم إلا وله من الأقارب والموالي من يدفع عنه إذا استجاره أو استنجده ، فأما اليتيم فإن الاعتداء عليه إنما يكون من أقرب الناس إليه ، وهو وليه ، لأنه لم يكن يلي اليتيم عندهم إلا أقرب الناس إليه ، وكان الأولياء يتوسعون في أموال أيتامهم ، ويعتدون عليها ، ويضيعون الأيتام لكيلا ينشأوا نشأة يعرفون بها حقوقهم ، ولذلك قال تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى لأن اليتيم مظنة الإضاعة فلذلك لم يوص الله تعالى بمال غير اليتيم ، لأن صاحبه يدفع عن نفسه ، أو يستدفع بأوليائه ومنجديه .

وأوفوا الكيل والميزان بالقسط [ ص: 165 ] عطف الأمر بإيفاء الكيل والميزان ، وذلك في التبايع ، فقد كانوا يبيعون التمر والزبيب كيلا ، وكانوا يتوازنون الذهب والفضة ، فكانوا يطففون حرصا على الربح ، فلذلك أمرهم بالوفاء . وعدل عن أن يأتي فيه بالنهي عن التطفيف كما في قول شعيب : " ولا تنقصوا المكيال والميزان " إشارة إلى أنهم مأمورون بالحد الذي يتحقق فيه العدل وافيا ، وعدم النقص يساوي الوفاء ، ولكن في اختيار الأمر بالإيفاء اهتماما به لتكون النفوس ملتفة إلى جانب الوفاء لا إلى جانب ترك النقيض ، وفيه تذكير لهم بالسخاء الذي يتمادحون به كأنه قيل لهم : أين سخاؤكم الذي تتنافسون فيه فهلا تظهرونه إذا كلتم أو وزنتم فتزيدوا على العدل بأن توفروا للمكتال كرما بله أن تسرقوه حقه . وهذا تنبيه لهم على اختلال أخلاقهم وعدم توازنها .

والباء في قوله : بالقسط للملابسة والقسط العدل ، وتقدم عند قوله تعالى : قائما بالقسط في سورة آل عمران ، أي أوفوا متلبسين بالعدل بأن لا تظلموا المكتال حقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية