الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : وما يعلم وقت قيام الساعة ، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته ، وما هو كائن ، إلا الله ، دون من سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة . وأما الراسخون في العلم فيقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " - لا يعلمون ذلك ، ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم ، العلم بأن الله هو العالم بذلك دون من سواه من خلقه .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، وهل " الراسخون " معطوف على اسم " الله " ، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه ، أم هم مستأنف ذكرهم ، بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون : آمنا بالمتشابه وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟

فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه . وأما الراسخون في العلم ، فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه والمحكم ، وأن جميع ذلك من عند الله .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 202 ]

6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا خالد بن نزار عن نافع عن ابن أبي مليكة عن عائشة قوله : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " قالت : كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ، ولم يعلموا تأويله .

6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقول : ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [ في العلم ] آمنا به )

6628 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني ابن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة : كان أبي يقول في هذه الآية " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .

6629 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد الله عن أبي نهيك الأسدي قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " فيقول : إنكم تصلون هذه الآية ، وإنها مقطوعة : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا . [ ص: 203 ]

6630 - حدثنا المثنى قال : حدثنا ابن دكين قال : حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : " والراسخون في العلم " انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا " آمنا به كل من عند ربنا " .

6631 - حدثني يونس قال أخبرنا أشهب عن مالك في قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " قال : ثم ابتدأ فقال : " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " وليس يعلمون تأويله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون : " آمنا به كل من عند ربنا " .

ذكر من قال ذلك :

6632 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله .

6633 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به " .

6634 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " والراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ويقولون : " آمنا به " .

6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ويقولون : " آمنا به " .

6636 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وما يعلم تأويله " الذي أراد ، ما أراد " إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " فكيف يختلف ، وهو قول واحد [ ص: 204 ] من رب واحد ؟ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا ، فنفذت به الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودمغ به الكفر .

قال أبو جعفر : فمن قال القول الأول في ذلك ، وقال : إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك ، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله ، فإنه يرفع " الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريين ، ويجعل خبره : " يقولون آمنا به " . وأما في قول بعض الكوفيين ، فبالعائد من ذكرهم في " يقولون " . وفي قول بعضهم : بجملة الخبر عنهم ، وهي : " يقولون " .

ومن قال القول الثاني ، وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله ، عطف ب " الراسخين " على اسم " الله " فرفعهم بالعطف عليه .

قال أبو جعفر : والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو : " يقولون " لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله - عز وجل - في هذه الآية ، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي : ( ويقول الراسخون في العلم ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرؤه . وفي قراءة عبد الله : ( إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون ) .

قال أبو جعفر : وأما معنى " التأويل " في كلام العرب ، فإنه التفسير والمرجع والمصير . وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى : [ ص: 205 ]

على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا

وأصله من : " آل الشيء إلى كذا " - إذا صار إليه ورجع " يئول أولا " و " أولته أنا " صيرته إليه . وقد قيل إن قوله : ( وأحسن تأويلا ) [ سورة النساء : 59 \ سورة الإسراء : 35 ] أي جزاء . وذلك أن " الجزاء " هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه .

ويعني بقوله : " تأول حبها " : تفسير حبها ومرجعه . وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه ، فآل من الصغر إلى العظم ، فلم يزل ينبت حتى أصحب ، فصار قديما ، كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيرا مثل أمه . [ ص: 206 ] وقد ينشد هذا البيت :


    على أنها كانت توابع حبها
توالي ربعي السقاب فأصحبا



التالي السابق


الخدمات العلمية