الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فيتبعون ما تشابه منه )

قال [ ص: 185 ] أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " فيتبعون ما تشابه " ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات ، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق ، تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه ، كما : -

6598 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " فيتبعون ما تشابه منه " فيحملون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون ، فلبس الله عليهم .

6599 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : " فيتبعون ما تشابه منه " أي : ما تحرف منه وتصرف ، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة .

6600 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " قال : الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله .

وقال آخرون في ذلك بما : [ ص: 186 ]

6601 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي في قوله : " فيتبعون ما تشابه منه " يتبعون المنسوخ والناسخ فيقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مكان هذه الآية ، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت ؟ وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعذبه [ في ] النار ، وفي مكان آخر : من عمله فإنه لم يوجب النار ؟

واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية .

فقال بعضهم : عني به الوفد من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاجوه بما حاجوه به ، وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر .

ذكر من قال ذلك :

6602 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قال : عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران - فخاصموا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى ! قالوا : فحسبنا ! فأنزل الله - عز وجل - : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " ثم [ ص: 187 ] إن الله - جل ثناؤه - : أنزل ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) [ سورة آل عمران : 59 ] ، الآية .

وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب ، وأخيه حيي بن أخطب ، والنفر الذين ناظروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدر مدة أكله وأكل أمته ، وأرادوا علم ذلك من قبل قوله : " الم و " المص " و " المر " و " الر " فقال الله - جل ثناؤه - فيهم : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " - يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق " فيتبعون ما تشابه منه " يعني : معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات " ابتغاء الفتنة " .

وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل في أول السورة التي تذكر فيها " البقرة " .

وقال آخرون : بل عنى الله - عز وجل - بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات ، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك ، إما في كتابه وإما على لسان رسوله .

ذكر من قال ذلك :

6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبائية ، فلا أدري من هم ! ولعمري لقد كان في أهل بدر [ ص: 188 ] والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر ، وعبرة لمن استعبر ، لمن كان يعقل أو يبصر . إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ كثير بالمدينة والشأم والعراق ، وأزواجه يومئذ أحياء . والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط ، ولا رضوا الذي هم عليه ، ولا مالئوهم فيه ، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم ونعته الذي نعتهم به ، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ، ويعادونهم بألسنتهم ، وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم . ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع ، ولكنه كان ضلالا فتفرق . وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا . فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل . فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله ؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم ؟ لو كانوا على هدى ، قد أظهره الله وأفلجه ونصره ، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه . فهم كما رأيتهم كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم ، وأكذب أحدوثتهم ، وأهراق دماءهم . إن كتموا كان قرحا في قلوبهم ، وغما عليهم . وإن أظهروه أهراق الله دماءهم . ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه . والله [ ص: 189 ] إن اليهودية لبدعة ، وإن النصرانية لبدعة ، وإن الحرورية لبدعة ، وإن السبائية لبدعة ، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي .

6604 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " طلب القوم التأويل فأخطئوا التأويل وأصابوا الفتنة ، فاتبعوا ما تشابه منه ، فهلكوا من ذلك . لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان وذكر نحو حديث عبد الرزاق عن معمر ، عنه .

6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى قوله " وما يذكر إلا أولو الألباب " فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم . [ ص: 190 ]

6606 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت : قرأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وما يذكر إلا أولو الألباب " قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال : يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله ، فاحذرهم قال مطر عن أيوب أنه قال : فلا تجالسوهم ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم . [ ص: 191 ]

6607 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو معناه .

6608 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .

6609 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنا الحارث ، عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " الآية كلها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، أولئك الذين قال الله ، فلا تجالسوهم . [ ص: 192 ]

6610 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة قالت : تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ثم قرأ إلى آخر الآيات ، فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم .

6611 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزع رسول الله [ ص: 193 ] - صلى الله عليه وسلم - : " يتبعون ما تشابه منه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم .

6612 - حدثنا علي قال : حدثنا الوليد عن نافع بن عمر عن [ ابن أبي مليكة ، حدثتني ] عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتموهم فاحذروهم ، ثم نزع : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ولا يعملون بمحكمه . [ ص: 194 ]

6613 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال أخبرنا عمي قال أخبرني شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " فقال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم .

6614 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا خالد بن نزار عن نافع عن ابن أبي مليكة عن عائشة في هذه الآية " هو الذي أنزل عليك الكتاب " الآية " يتبعها " يتلوها ، ثم يقول : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم ، فهم الذين عنى الله . [ ص: 195 ]

6615 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : هم الذين سماهم الله ، فإذا أريتموهم فاحذروهم .

قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية ، أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله ، إما [ ص: 196 ] في أمر عيسى ، وإما في مدة أكله وأكل أمته .

وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه ، لأن قوله : " وما يعلم تأويله إلا الله " دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . فأما أمر عيسى وأسبابه ، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، وبينه لهم . فمعلوم أنه لم يعن به إلا ما كان خفيا عن الآجال .

التالي السابق


الخدمات العلمية