الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم

عطف على قوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وأعيد فعل ( وقالوا ) لاختلاف غرض المقول .

[ ص: 110 ] الإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها ، كما تقدم ، أو إلى الأنعام المذكورة قبل ، ولا يتعلق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء التي حرموها ؛ لأن المقصود التعجيب من فساد شرعهم كما تقدم آنفا ، وهذا خبر عن دينهم في أجنة الأنعام التي حجروها أو حرموا ظهورها ، فكانوا يقولون في أجنة البحيرة والسائبة : إذا خرجت أحياء يحل أكلها للذكور دون النساء ، وإذا خرجت ميتة حل أكلها للذكور والنساء ، فالمراد بما في البطون أجنة لا محالة لقوله : وإن يكن ميتة وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسائبة : يشربها الرجال دون النساء ، فظن بعض المفسرين أن المراد بما في بطون الأنعام ألبانها ، وروي عن ابن عباس ، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عباس أن ما في البطون يشمل الألبان لأنها تابعة للأجنة وناشئة عن ولادتها .

والخالصة : السائغة ؛ أي : المباحة ؛ أي : لا شائبة حرج فيها ؛ أي : في أكلها ، ويقابله قوله : ( ومحرم ) .

وتأنيث خالصة ؛ لأن المراد بـ ( ما ) الموصولة الأجنة ، فروعي معنى ( ما ) وروعي لفظ ( ما ) في تذكير محرم .

والمحرم : الممنوع ؛ أي : ممنوع أكله ، فإسناد الخلوص والتحريم إلى الذوات بتأويل تحريم ما تقصد له ، وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء .

والأزواج جمع زوج ، وهو وصف للشيء الثاني لغيره ، فكل واحد من شيئين اثنين هو زوج ، ولذلك سمي حليل المرأة زوجا وسميت المرأة حليلة الرجل زوجا ، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ، وقد تقدم عند قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة في سورة البقرة .

[ ص: 111 ] وظاهر الآية أن المراد أنه محرم على النساء المتزوجات ؛ لأنهم سموهن أزواجا ، وأضافوهن إلى ضميرهم ، فتعين أنهن النساء المتزوجات بهم كما يقال : امرأة فلان ، وإذا حملناه على الظاهر وهو الأولى عندي كان ذلك دالا على أنهم كانوا يتشاءمون بأكل الزوجات لشيء ذي صفة ، كانوا يكرهون أن تصيب نساءهم : مثل العقم ، أو سوء المعاشرة مع أزواج ، والنشوز ، أو الفراق ، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهلية وتكاذيبهم ، أو لأنه نتاج أنعام مقدسة ، فلا تحل للنساء ؛ لأن المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنجاسة والخباثة ، لأجل الحيض ونحو ذلك ، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النساء دخول المساجد ، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض ، وقالت كبشة بنت معد يكرب تعير قومها :


ولا تشربوا إلا فضول نسائكم إذا ارتملت أعقابهن من الدم



وقال جمهور المفسرين : أطلق الأزواج على النساء مطلقا ؛ أي : فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد ، فيشمل المرأة الأيم ولا يشمل البنات ، وقال بعضهم : أريد به البنات ؛ أي : بمجاز الأول ، فلعلهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التزوج ، أو ما يتعيرون منه ، أو نحو ذلك ، وكانت الأحوال الشائعة بينهم دالة على المراد .

وأما قوله : وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء أي : إن يولد ما في بطون الأنعام ميتا جاز أكله للرجال والأزواج ، أو للرجال والنساء ، أو للرجال والنساء والبنات ، وذلك لأن خروجه ميتا يبطل ما فيه من الشؤم على المرأة ، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك .

وقرأ الجمهور : وإن يكن بالتحتية ونصب ( ميتة ) ، وقرأ ابن كثير برفع ( ميتة ) ، على أن كان تامة ، وقد أجري ضمير ( يكن ) على التذكير ؛ لأنه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التذكير [ ص: 112 ] لتجرد لفظه عن علامة تأنيث ، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك .

وقرأ ابن عامر بالفوقية على اتباع تأنيث خالصة ؛ أي : إن تكن الأجنة ، وقرأ ( ميتة ) بالنصب ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتأنيث والنصب .

وجملة سيجزيهم وصفهم مستأنفة استئنافا بيانيا ، كما قلت في جملة سيجزيهم بما كانوا يفترون آنفا .

والوصف : ذكر حالات الشيء الموصوف وما يتميز به لمن يريد تمييزه في غرض ما ، وتقدم في قوله : سبحانه وتعالى عما يصفون في هذه السورة .

والوصف هنا : هو ما وصفوا به الأجنة من حل وحرمة لفريق دون فريق ، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام .

وجزاؤهم عنه هو جزاء سوء بقرينة المقام ؛ لأنه سمى مزاعمهم السابقة افتراء على الله .

وجعل الجزاء متعديا للوصف بنفسه على تقدير مضاف ؛ أي : سيجزيهم جزاء وصفهم ، ضمن ( يجزيهم ) معنى يعطيهم ؛ أي : جزاء وفاقا له .

وجملة إنه حكيم عليم تعليل لكون الجزاء موافقا لجرم وصفهم . وتؤذن ( إن ) بالربط والتعليل ، وتغني غناء الفاء ، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها ، والعليم يطلع على أفعال المجزيين ، فلا يضيع منها ما يستحق الجزاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية