الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون

[ ص: 47 ] عطف على جملة كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون فلها حكم الاستئناف البياني لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم ، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وصرفهم الحيل لصد الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمشار إليه بقوله : ( وكذلك ) أولياء الشياطين بتأويل كذلك المذكور .

والمعنى : ومثل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكة جعلنا في كل قرية مضت أكابر يصدون عن الخير ، فشبه أكابر المجرمين من أهل مكة في الشرك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمم الأخرى ؛ أي : أن أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاص بأعداء هذا الدين ، فإنه سنة المجرمين مع الرسل الأولين .

فالجعل : بمعنى الخلق ووضع السنن الكونية ، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشر في كل مجتمع ، وبخاصة القرى .

وفي هذا تنبيه على أن أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى ؛ لأنهم لبساطة طباعهم من الفطرة السليمة ، فإذا سمعوا الخير تقبلوه ، بخلاف أهل القرى ، فإنهم لتشبثهم بعوائدهم وما ألفوه ، ينفرون من كل ما يغيره عليهم ، ولهذا قال الله تعالى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق فجعل النفاق في الأعراب نفاقا مجردا ، والنفاق في أهل المدينة نفاقا ماردا .

وقد يكون الجعل بمعنى التصيير ، وهو تصيير خلق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى ، ثم إن تصارع الخير والشر يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر ، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشر والفساد ، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشر وكثروا .

[ ص: 48 ] ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة التي وصفها أفلاطون في كتابه ، والتي كادت أن تحقق صفاتها في مدينة أثينة في زمن جمهوريتها ، ولكنها ما تحققت بحق إلا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الراشدين فيها .

وقد نبه إلى هذا المعنى قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا على قراءة تشديد ميم : ( أمرنا ) .

والأظهر في نظم الآية : أن ( جعلنا ) بمعنى خلقنا وأوجدنا ، وهو يتعدى إلى مفعول واحد كقوله : وجعل الظلمات والنور فمفعوله : أكابر مجرميها .

وقوله : في كل قرية ظرف لغو متعلق بـ ( جعلنا ) وإنما قدم على المفعول مع أنه دونه في التعلق بالفعل ؛ لأن كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهم في هذا الخبر ، ليعلم أهل مكة أن حالهم جرى على سنن أهل القرى المرسل إليها .

وفي قوله : أكابر مجرميها إيجاز ؛ لأنه أغنى عن أن يقول : جعلنا مجرمين وأكابر لهم ، وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة . وقوله : ليمكروا متعلق بـ ( جعلنا ) أي : ليحصل المكر ، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أن مكرهم ليس بعظيم الشأن .

ويحتمل أن يكون ( جعلنا ) بمعنى صيرنا فيتعدى إلى مفعولين هما : أكابر مجرميها على أن ( مجرميها ) المفعول الأول ، و ( أكابر ) مفعول ثان ؛ أي : جعلنا مجرميها أكابر ، وقدم المفعول الثاني للاهتمام به لغرابة شأنه ؛ لأن مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب ؛ إذ ليسوا بأهل للسؤدد ، كما قال طفيل الغنوي :

[ ص: 49 ]

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهـالـهـم سـادوا     تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولت فبالأشرار تنقاد

وتقديم قوله : في كل قرية للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأول ، وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم ، وتفاقم ضره ، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك القرية ، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون ؛ لأن بقاءهم على الشرك صيرهم مجرمين بين من أسلم منهم ، ولعل كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السامعون كليهما ، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدم عند قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين .

واللام في ( ليمكروا ) لام التعليل ، فإن من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصالح والفاسد ، أن يعمل الصالح للصلاح ، وأن يعمل الفاسد للفساد ، والمكر من جملة الفساد ، ولام التعليل لا تقتضي الحصر ، فلله تعالى في إيجاد أمثالهم حكم جمة ، منها هذه الحكمة ، فيظهر بذلك شرف الحق والصلاح ويسطع نوره ، ويظهر اندحاض الباطل بين يديه بعد الصراع الطويل ؛ ويجوز أن تكون اللام المسماة لام العاقبة ، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا .

ودخلت مكة في عموم : كل قرية وهي المقصود الأول ؛ لأنها القرية الحاضرة التي مكر فيها ، فالمقصود الخصوص . والمعنى : وكذلك جعلنا فيمكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كل قرية مثلهم ، وإنما عمم الخبر لقصد تذكير المشركين في مكة بما حل بالقرى من قبلها ، مثل قرية الحجر وسبأ والرس ، كقوله : تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا ، [ ص: 50 ] ولقصد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ليس ببدع من الرسل في تكذيب قومه إياه ومكرهم به ووعده بالنصر .

وقوله : أكابر مجرميها أكابر جمع أكبر ، وأكبر اسم لعظيم القوم وسيدهم ، يقال : ورثوا المجد أكبر أكبر ، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزيادة في الكبر لا في السن ولا في الجسم ، فصار بمنزلة الاسم غير المشتق ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع ، أو وصف به الجمع ولو كان معتبرا بمنزلة الاسم المشتق لكان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير . وجمع على أكابر ، يقال : ملوك أكابر ، فوزن أكابر في الجمع فعالل مثل أفاضل جمع أفضل ، وأيامن وأشائم جمع أيمن وأشأم للطير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة .

واعلم أن اصطلاح النحاة في موازين الجموع في باب التكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصلية والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصرف في باب المجرد والمزيد ، فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة .

وفي قوله : أكابر مجرميها إيجاز ؛ لأن المعنى جعلنا في كل قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلما كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين .

والمكر : إيقاع الضر بالغير خفية وتحيلا ، وهو من الخداع ومن المذام ، ولا يغتفر إلا في الحرب ، ويغتفر في السياسة إذا لم يمكن اتقاء الضر إلا به ، وأما إسناده إلى الله في قوله تعالى : ومكر الله والله خير الماكرين فهو من المشاكلة ؛ لأن قبله ومكروا أي : مكروا بأهل الله ورسله ، والمراد بالمكر هنا تحيل زعماء المشركين على الناس في صرفهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام ، قال مجاهد : كانوا جلسوا على كل عقبة ينفرون الناس عن اتباع النبيء صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 51 ] وقد حذف متعلق ( ليمكروا ) لظهوره ؛ أي : ليمكروا بالنبيء عليه الصلاة والسلام ظنا منهم بأن صد الناس عن متابعته يضره ويحزنه ، وأنه لا يعلم بذلك ، ولعل هذا العمل منهم كان لما كثر المسلمون في آخر مدة إقامتهم بمكة قبيل الهجرة إلى المدينة ، ولذلك قال الله تعالى : وما يمكرون إلا بأنفسهم ، فالواو للحال ؛ أي : هم في مكرهم ذلك إنما يضرون أنفسهم ، فأطلق المكر على مآله وهو الضر ، على سبيل المجاز المرسل ، فإن غاية المكر ومآله إضرار الممكور به ، فلما كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار .

وجيء بصيغة القصر ؛ لأن النبيء صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضر من صدهم الناس عن اتباعه ، ويلحق الضر الماكرين في الدنيا : بعذاب القتل والأسر ، وفي الآخرة : بعذاب النار ، إن لم يؤمنوا ، فالضر انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي ، وهو قصر قلب .

وقوله : وما يشعرون جملة حال ثانية ، فهم في حالة مكرهم بالنبيء متصفون بأنهم ما يمكرون إلا بأنفسهم وبأنهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم ، والشعور : العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية