الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قوله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم

                                                                                                                                                                                                        4393 حدثني عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيده على السبعين قال إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره [ ص: 185 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 185 ] قوله : باب قوله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم كذا لأبي ذر ورواية غيره مختصرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عبيد الله ) هو ابن عمر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لما توفي عبد الله بن أبي ) ذكر الواقدي ثم الحاكم في " الإكليل " أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع ، وكانت مدة مرضه عشرين يوما ابتداؤها من ليال بقيت من شوال ، قالوا : وكان قد تخلف هو ومن تبعه من غزوة تبوك ، وفيهم نزلت لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا وهذا يدفع قول ابن التين أن هذه القصة كانت في أول الإسلام قبل تقرير الأحكام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( جاء ابنه عبد الله بن عبد الله ) وقع في رواية الطبري من طريق الشعبي : لما احتضر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه ، قال : ما اسمك ؟ قال : الحباب - يعني بضم المهملة وموحدتين مخففا - قال : بل أنت عبد الله الحباب اسم الشيطان . وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق ، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في قتله ، قال : بل أحسن صحبته ، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن ، وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه ، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحضر عنده ويصلي عليه ، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه ، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما دخل عليه قال : أهلكك حب يهود ، فقال : يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني . ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه وهذا مرسل مع ثقة رجاله ، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه فقال : قد فهمت ما تقول ، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل وكأن عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي ، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) في حديث ابن عباس عن عمر ثاني حديث الباب " فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفي حديث الترمذي من هذا الوجه " فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله " يشير بذلك إلى مثل قوله : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وإلى مثل قوله : ليخرجن الأعز منها الأذل وسيأتي بيانه في تفسير المنافقين .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 186 ] قوله : ( فقال : يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ) كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة ، وقد استشكل جدا حتى أقدم بعضهم فقال : هذا وهم من بعض رواته ، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك . وقال القرطبي : لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام ، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين .

                                                                                                                                                                                                        قلت : الثاني يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول ، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين ، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث " قال فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم " والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ " فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم " وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال " أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت : والله ما أمرك الله بهذا ، لقد قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ قال : أين ؟ قال قال : استغفر لهم الآية ، وهذا مثل رواية الباب ، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن " أو " ليست للتخيير ، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء ، وهو كقوله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لكن الثانية أصرح ، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره ، وفهم عمر أيضا من قوله : ( سبعين مرة ) أنها للمبالغة وأن العدد المعين لا مفهوم له ، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار ، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه ، وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة ، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة ، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي . هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين ، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريشا قبل الفتح " دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق " فلذلك أقدم على كلامه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما قال ، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة . قال الزين بن المنير : وإنما قال ذلك عمر حرصا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشورة لا إلزاما ، وله عوائد بذلك ، ولا يبعد أن يكون النبي كان أذن له في مثل ذلك فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النص كما تمسك به قوم في جواز ذلك ، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط ، ولهذا احتمل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام ، حتى التفت إليه متبسما كما في حديث ابن عباس بذلك في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ، وسأزيده على السبعين ) في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أخر عني يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت أي خيرت بين الاستغفار وعدمه ، وقد بين ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة . وقوله في حديث ابن عباس عن عمر لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة ، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال " لما نزلت استغفر لهم أو لا تستغفر لهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد خيرني [ ص: 187 ] ربي ، فوالله لأزيدن على السبعين " وأخرجه الطبري من طريق مجاهد مثله ، والطبري أيضا وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه مثله ، وهذه طرق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضا . وقد خفيت هذه اللفظة على من خرج أحاديث المختصر والبيضاوي واقتصروا على ما وقع في حديثي الباب ، ودل ذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم - أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له ، وقد ورد ما يدل على ذلك ، فذكر الواقدي أن مجمع بن جارية قال " ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف " وروى الطبري من طريق مغيرة عن الشعبي قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال الله إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فأنا أستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة ، وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى . ووجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين فقال سأزيد على السبعين ، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة ، وليس ذلك بدافع للحجة ، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال إنه منافق فصلى عليه ) أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله : وإنما لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره ، واستصحابا لظاهر الحكم ، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته ، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح ، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عما يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه ، ولذلك قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق ، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم ، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى . قال الخطابي : إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح ، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم ، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه ، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى . وتبعه ابن بطال وعبر بقوله : ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام . وتعقبه وابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض . وهو كما قال ، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفا . قلت : وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عليه ، وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك ، ولم يقف على جواب شاف في ذلك ، فأقدم على الدعوى المذكورة . وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال ، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة . وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال : فأنزل الله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره قال : فذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وما يغني عنه قميصي من الله ، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 188 ] قوله : فأنزل الله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره زاد عن مسدد في حديثه عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر في آخره " فترك الصلاة عليهم " أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسدد وحماد بن زاذان عن يحيى ، وقد أخرجه البخاري في الجنائز عن مسدد بدون هذه الزيادة ، وفي حديث ابن عباس " فصلى عليه ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت " زاد ابن إسحاق في المغازي قال حدثني الزهري بسنده في ثاني حديثي الباب قال " فما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على منافق بعده حتى قبضه الله " ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم ، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن إسحاق فزاد فيه " ولا قام على قبره " وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال لما نزلت استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لأزيدن على السبعين ، فأنزل الله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ورجاله ثقات مع إرساله ، ويحتمل أن تكون الآيتان معا نزلتا في ذلك .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية