الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مطلب : في مثالب الكذب .

وأما مثالب الكذب فهي أكثر من أن تذكر . فأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا اؤتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم } .

ورواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والحاكم والبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا بلفظ { تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا وعد فلا يخلف ، وإذا اؤتمن فلا يخن ، غضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم } .

[ ص: 144 ] وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح عن سيدنا الحسن بن علي رضوان الله عليهما قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة } . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا } .

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن سيدنا أبي بكر الصديق رضوان الله عليه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة ، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار } ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن من حديث معاوية رضي الله عنه .

وأخرج الإمام مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين .

وروى أبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي برزة مرفوعا { ألا إن الكذب يسود الوجه . والنميمة عذاب القبر } .

وأخرج البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { رأيت الليلة رجلين أتياني ، قال الذي رأيته يشق شدقيه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة } .

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر } زاد مسلم في رواية له { وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم } .

[ ص: 145 ] وأخرج الإمام أحمد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء وإن كان صادقا } . ورواه أبو يعلى من حديث سيدنا الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ، ويدع المراء وإن كان محقا } .

وروى الإمام أحمد قال حدثنا وكيع سمعت الأعمش قال حدثت عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب } . ورواه البزار وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعا بلفظ { يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب } .

وصح عن الصديق رضي الله عنه وروي مرفوعا { الكذب يجانب الإيمان } رواه البيهقي .

وأخرج الإمام أحمد عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب } قال الحافظ المنذري : رواه الإمام أحمد عن شيخه عمر بن هارون وفيه خلاف وبقية رواته ثقات .

وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا كذب العبد تباعد الملك ميلا من نتن ما جاء به } .

وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد واللفظ للإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت { ما كان من [ ص: 146 ] خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ما اطلع على أحد من ذلك بشيء فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة } .

ولفظ الحاكم { ما كان شيء أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب . وما جربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وإن قل فيخرج له من نفسه حتى يجدد له توبة } وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ، ويل له ، ويل له } .

وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر } . ورواه البزار بإسناد جيد من حديث سلمان رضي الله عنه ولفظه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزاني ، والإمام الكذاب ، والعائل المزهو } العائل هو الفقير ، والمزهو هو المعجب بنفسه المتكبر . وقد قال صلى الله عليه وسلم { كفى بالمرء كذبا } ، وفي رواية { إثما } ، وفي رواية { بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع } رواه مسلم عن أبي هريرة . قال في الآداب : ففي هذا الخبر أن من فعل ذلك وقع في الكذب المحرم ، فلا يفعل ليجتنب المحرم ، فيكون من فعل ذلك عمدا فقد تعمد كذبا .

وقال في شرح مسلم : معناه الزجر عن التحديث بكل ما سمع فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب ، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن . قالت الحكماء : من خاف الكذب أقل المواعيد . وقالوا : أمران لا يسلمان من الكذب : كثرة المواعيد ، وشدة الاعتذار .

وقال نافع مولى ابن عمر : طاف ابن عمر سبعا وصلى ركعتين ، فقال له رجل من قريش : ما أسرع ما طفت وصليت يا أبا عبد الرحمن ، فقال [ ص: 147 ] ابن عمر : أنتم أكثر منا طوافا وصياما ونحن خير منكم ، نحن نلتزم صدق الحديث وأداء الأمانة وإنجاز الوعد .

وأنشد محمود الوراق :

أصدق حديثك إن في الصدق الخلاص من الكذب

وقال آخر :

ودع الكذوب لسانه     خير من الكذب الخرس

وقال آخر :

ما أقبح الكذب المذموم صاحبه     وأحسن الصدق عند الله والناس

وقال آخر :

الصدق أولى ما به     دان الفتى فاجعله دينا
ودع النفاق فما     رأيت منافقا إلا مهينا

وقال الحسن البصري : لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه .

وقال بعض الحكماء : من عرف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه . وقالوا : الصدق عز ، والكذب خضوع . وقال لقمان لابنه : يا بني احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور ، من أكل منه شيئا لم يصبر عنه ، والله أعلم .

( خاتمة ) الكذب من حيث هو حرام إلا فيما تقدم ، ولكنه من الصغائر في المعتمد ، ما لم يكن كذبا على الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو رمى بفتنة فكبيرة . وقد أوضحت ذلك في كتابي شرح منظومة الكبائر إيضاحا تاما . والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية