الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ضوابط في المكي والمدني .

أخرج الحاكم في مستدركه ، والبيهقي في الدلائل ، والبزار في مسنده : من طريق الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله ، قال : ما كان " يا أيها الذين آمنوا " أنزل بالمدينة ، وما كان " يا أيها الناس " فبمكة .

وأخرجه أبو عبيد في " الفضائل " عن علقمة مرسلا .

وأخرج عن ميمون بن مهران ، قال : ما كان في القرآن ( ياأيها الناس ) أو ( يابني آدم فإنه مكي ، وما كان " ياأيها الذين آمنوا " فإنه مدني .

قال ابن عطية وابن الفرس وغيرهما : هو في ( ياأيها الذين آمنوا ) صحيح ، وأما ( ياأيها الناس ) فقد يأتي في المدني .

وقال ابن الحصار : وقد اعتنى المتشاغلون بالنسخ بهذا الحديث ، واعتمدوه على ضعفه ، وقد اتفق الناس على أن ( النساء ) مدنية ، وأولها : ( ياأيها الناس ) وعلى أن ( الحج ) مكية ; وفيها : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا [ الحج : 77 ] .

وقال غيره : هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر ، فإن سورة البقرة مدنية ، وفيها ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ البقرة : 21 ] ياأيها الناس كلوا مما في الأرض [ البقرة : 168 ] وسورة النساء مدنية ، وأولها : يا أيها الناس .

[ ص: 82 ] وقال مكي : هذا إنما هو في الأكثر وليس بعام وفي كثير من السور المكية : يا أيها الذين آمنوا .

وقال غيره : الأقرب حمله على أنه خطاب ، المقصود به - أو جل المقصود به - أهل مكة أو المدينة .

وقال القاضي : إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلم ، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف ، إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم وباسمهم وجنسهم . ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها . نقله الإمام فخر الدين في تفسيره .

وأخرج البيهقي في الدلائل ، من طريق يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كل شيء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون فإنما نزل بمكة وما كان من الفرائض والسنن فإنما نزل بالمدينة .

وقال الجعبري : لمعرفة المكي والمدني طريقان : سماعي وقياسي .

فالسماعي : ما وصل إلينا نزوله بأحدهما .

والقياسي : كل سورة فيها ( ياأيها الناس ) فقط ، أو ( كلا ) أو : أولها حرف تهج - سوى الزهراوين والرعد - أو : فيها قصة آدم وإبليس - سوى البقرة - فهي مكية ، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية ، وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية . انتهى .

وقال مكي : كل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية ، زاد غيره : سوى العنكبوت .

وفي كامل الهذلي : كل سورة فيها سجدة فهي مكية .

وقال الديريني - رحمه الله - :


وما نزلت ( كلا ) بيثرب فاعلمن ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى



وحكمة ذلك : أن نصفه الأخير نزل أكثره بمكة ، وأكثرها جبابرة ، فتكررت فيه على وجه [ ص: 83 ] التهديد والتعنيف لهم ، والإنكار عليهم ، بخلاف النصف الأول . وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم ; ذكره العماني .

فائدة : أخرج الطبراني ، عن ابن مسعود : نزل المفصل بمكة ، فمكثنا حججا نقرؤه ، لا ينزل غيره .

تنبيه : قد تبين بما ذكرناه من الأوجه التي ذكرها ابن حبيب : المكي والمدني ، وما اختلف فيه ، وترتيب نزول ذلك ، والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية ، وبقي أوجه تتعلق بهذا النوع ذكر هو أمثلتها فنذكره .

مثال ما نزل بمكة وحكمه مدني : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ الحجرات : 13 ] الآية نزلت بمكة يوم الفتح ، وهي مدنية ; لأنها نزلت بعد الهجرة . وقوله اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] كذلك .

قلت : وكذا قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ النساء : 58 ] في آيات أخر .

ومثال ما نزل بالمدينة وحكمه مكي : سورة الممتحنة ; فإنها نزلت بالمدينة مخاطبة لأهل مكة .

وقوله في النحل : والذين هاجروا [ النحل : 41 ] إلى آخرها ، نزل بالمدينة مخاطبا به أهل مكة .

وصدر براءة ، نزل بالمدينة خطابا لمشركي أهل مكة .

ومثال ما يشبه تنزيل المدني في السور المكية : قوله في النجم : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم .

[ ص: 84 ] [ النجم : 32 ] . فإن الفواحش كل ذنب فيه حد ، والكبائر كل ذنب عاقبته النار ، واللمم ما بين الحدين من الذنوب . ولم يكن بمكة حد ، ولا نحوه .

ومثال ما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية : قوله : ( والعاديات ضبحا ) وقوله في الأنفال : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق الآية [ الأنفال : 32 ] .

ومثال ما حمل من مكة إلى المدينة : سورة يوسف ، والإخلاص .

قلت : و ( سبح ) ، كما تقدم في حديث البخاري .

ومثال ما حمل من المدينة إلى مكة : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه [ البقرة : 217 ] وآية الربا ، وصدر براءة ، وقوله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [ النساء : 97 ] الآيات .

ومثال ما حمل إلى الحبشة : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء [ آل عمران : 64 ] الآيات .

قلت : صح حملها إلى الروم .

وينبغي أن يمثل لما حمل إلى الحبشة بسورة مريم ، فقد صح أن جعفر بن أبي طالب قرأها على النجاشي ، وأخرجه أحمد في مسنده .

وأما ما أنزل بالجحفة والطائف وبيت المقدس والحديبية ; فسيأتي في النوع الذي يلي هذا ، ويضم إليه ما نزل بمنى وعرفات وعسفان وتبوك وبدر وأحد وحراء وحمراء الأسد .

التالي السابق


الخدمات العلمية