الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين .

الواو استئنافية كما هي في نظائره . والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع لما شعر بقصة أومأ إليها قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضون البقاء في ضلالة تكبرا عن غشيان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين ، فأجيب بأن هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلقهم .

وقعت هذه الجملة اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلا للبيان ، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض ، وهي الواو الاعتراضية ، وتسمى الاستئنافية ; فبين الله أن داعيهم [ ص: 253 ] إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد ; والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها ، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعت كبرا وعجبا وغرورا بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم ، وظلم لأصحاب الحق ، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم .

والتشبيه مقصود منه التعجيب من المشبه بأنه بلغ الغاية في العجب .

واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من فتنا كما يعود الضمير على المصدر في نحو اعدلوا هو أقرب للتقوى أي فتنا بعضهم ببعض فتونا يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلم أن يقربه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيها في غرائبه وفظاعته إلا أن يشبهه بنفسه إذ لا أعجب منه ، على حد قولهم : والسفاهة كاسمها .

وليس ثمة إشارة إلى شيء متقدم مغاير للمشبه . وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه . وقد تقدم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .

والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون ، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون ، أي فتنا عظماء المشركين في استمرار شركهم وشرك مقلديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دل عليه قوله ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فإن ذلك لا يقوله غير المشركين ، وكما يؤيده قوله تعالى في تذييله أليس الله بأعلم بالشاكرين .

والقول يحتمل أن يكون قولا منهم في أنفسهم أو كلاما قالوه في ملئهم . وأيا ما كان فهم لا يقولونه إلا وقد اعتقدوا مضمونه ، فالقائلون أهؤلاء من الله عليهم هم المشركون .

واللام في قوله ليقولوا لام التعليل ، ومدخولها هو أثر العلة دال عليها بعد طيها [ ص: 254 ] على طريقة الإيجاز . والتقدير : فتناهم ليروا لأنفسهم شفوفا واستحقاقا للتقدم في الفضائل اغترارا - بحال الترفه فيعجبوا كيف يدعى أن الله يمن بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحط منهم ، وكيف يعدون هم دونهم عند الله ، وهذا من الغرور والعجب الكاذب . ونظيره في طي العلة والاقتصار على ذكر أثرها قول إياس بن قبيصة الطائي :


وأقدمت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها

أي ليظهر الجبان والشجاع فأعلمهما .

والاستفهام مستعمل في التعجب والإنكار ، كما هو في قوله أألقي الذكر عليه من بيننا . والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين أهذا الذي يذكر آلهتكم في سورة الأنبياء .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر .

وقولهم من الله عليهم قالوه على سبيل التهكم ومجاراة الخصم ، أي حيث اعتقد المؤمنون أن الله من عليهم بمعرفة الحق وحرم صناديد قريش ، فلذلك تعجب أولئك من هذا الاعتقاد ، أي كيف يظن أن الله يمن على فقراء وعبيد ويترك سادة أهل الوادي . وهذا كما حكى الله عنهم وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . وهذه شنشنة معروفة من المستكبرين والطغاة . وقد حدث بالمدينة مثل هذا . روى البخاري أن الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنما بايعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وجهينة فقال له رسول الله : أرأيت إن كانت أسلم وغفار ومزينة وجهينة خيرا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان أخابوا وخسروا ( أي أخاب بنو تميم ومن عطف عليهم ) فقال : نعم قال : فوالذي نفسي بيده إنهم لخير منهم .

وفي الآية معنى آخر ، وهو أن يكون القول مضمرا في النفس ، وضمير ليقولوا عائدا إلى المؤمنين الفقراء ، فيكونوا هم البعض المفتونين ، ويكون البعض المجرور بالباء صادقا [ ص: 255 ] على أهل النعمة من المشركين ، وتكون إشارة هؤلاء راجعة إلى عظماء المشركين ويكون المراد بالمن إعطاء المال وحسن حال العيش ، ويكون الاستفهام مستعملا في التحير على سبيل الكناية ، والإشارة إلى المشركين معتبر فيها ما عرفوا به من الإشراك وسوء الاعتقاد في الله . والمعنى : وكذلك الفتون الواقع لعظماء المشركين ، وهو فتون الإعجاب والكبرياء حين ترفعوا عن الدخول فيما دخل فيه الضعفاء والعبيد من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته استكبارا عن مساواتهم ، كذلك كان فتون بعض آخر وهم بعض المؤمنين حين يشاهدون طيب عيش عظماء المشركين في الدنيا مع إشراكهم بربهم فيعجبون كيف من الله بالرزق الواسع على من يكفرون به ولم يمن بذلك على أوليائه وهم أولى بنعمة ربهم . وقد أعرض القرآن عن التصريح بفساد هذا الخاطر النفساني اكتفاء بأنه سماه فتنة ، فعلم أنه خاطر غير حق ، وبأن قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين مشير إلى إبطال هذه الشبهة . ذلك بأنها شبهة خلطت أمر شيئين متفارقين في الأسباب ، فاشتبه عليهم الجزاء على الإيمان وما أعد الله لأهله من النعيم الخالد في الآخرة ، المترتب عليه ترتب المسبب على السبب المجعول عن حكمة الله تعالى ، بالرزق في الدنيا المترتب على أسباب دنيوية كالتجارة والغزو والإرث والهبات . فالرزق الدنيوي لا تسبب بينه وبين الأحوال القلبية ولكنه من مسببات الأحوال المادية فالله أعلم بشكر الشاكرين ، وقد أعد لهم جزاء شكرهم ، وأعلم بأسباب رزق المرزوقين المحظوظين . فالتخليط بين المقامين من ضعف الفكر العارض للخواطر البشرية والناشئ عن سوء النظر وترك التأمل في الحقائق وفي العلل ومعلولاتها . وكثيرا ما عرضت للمسلمين وغيرهم شبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلب الأشياء من مظانها وقعدت بهم عن رفو أخلالهم في الحياة الدنيا أو غرتهم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية ، كما عرض لابن الراوندي من حيرة الجهل في قوله :


كم عالم عالم أعيت مذاهبـه     وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة     وصير العالم النحرير زنديقا

[ ص: 256 ] ولا شك أن الذين استمعوا القرآن ممن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا واستفاقوا ، فمن أجل ذلك تأهلوا لامتلاك العالم ولاقوا .

و ( من ) في قوله من بيننا ابتدائية . وبين ظرف يدل على التوسط ، أي من الله عليهم مختارا لهم من وسطنا ، أي من عليهم وتركنا ، فيئول إلى معنى من دوننا .

وقوله أليس الله بأعلم بالشاكرين تذييل للجملة كلها ، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول ، ولذلك فصل . والاستفهام تقريري . وعدي " أعلم " بالباء لأنه بصيغة التفضيل صار قاصرا . والمعنى أن الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك من على الذين أشاروا إليه بقولهم أهؤلاء من الله عليهم بمنة الإيمان والتوفيق .

ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة ، فهو يلطف بهم ويسهل لهم الإيمان ويحببه إليهم ويزينه في قلوبهم ويزيدهم يوما فيوما تمكنا منه وتوفيقا وصلاحا ، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أن رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزاتهم دون نياتهم . فهذا التذييل ناظر إلى قوله إنما يستجيب الذين يسمعون .

وقد علم من قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين أنه أيضا أعلم بأضدادهم . ضد الشكر هو الكفر ، كما قال تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد فهو أعلم بالذين يأتون الرسول عليه الصلاة والسلام مستهزئين متكبرين لا هم لهم إلا تحقير الإسلام والمسلمين ، وقد استفرغوا وسعهم ولبهم في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين . ففي الكلام تعريض بالمشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية