الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين )

                          أباح الله - تعالى - لبني إسرائيل العمل في ستة أيام من الأسبوع ، وحظر عليهم العمل في يوم واحد وهو يوم السبت ، وفرض عليهم في هذا اليوم الاجتهاد في الأعمال الدينية إحياء للشعور الديني في قلوبهم ، وإضعافا لشرههم في جمع الحطام وحبهم للدنيا ، فتجاوز طائفة منهم حدود الله في السبت واعتدوها ، فكان جزاؤهم على ذلك جزاء من لم يرض نفسه بآداب الدين ، وجزاء مثله هو الخروج من محيط الكمال الإنساني ، والرتوع في مراتع البهيمية ، كالقرد في نزواته ، والخنزير في شهواته ، وقد سجل الله - تعالى - عليهم ذلك بحكم سنة الفطرة ، والنواميس التي أقام بها نظام الخليقة ، وذلك قوله - عز وجل - : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) أي وأقسم أنكم لقد علمتم نبأ الذين تجاوزوا حدود حكم الكتاب في ترك العمل الدنيوي يوم السبت - وسيأتي نبؤهم مفصلا في سورة الأعراف - ( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، فمثلوا بالقردة [ ص: 285 ] كما مثلوا بالحمار في قوله - تعالى - : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) ( 62 : 5 ) ومثل هذا قوله - تعالى - : ( وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ( 5 : 60 ) والخسوء : هو الطرد والصغار . والأمر للتكوين ، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس ، والمعنى : أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلا لمجالستهم ومعاملتهم .

                          وذهب جمهور المفسرين إلى أن تلك القرية ( أيلة ) وقيل : ( طبرية ) أو ( مدين ) وقالوا : إن ذلك كان في زمن داود - عليه السلام - ، والقرآن لم يعين المكان ولا الزمان ، والعبرة المقصودة لا تتوقف على تعيين هذه الجزئيات ، فالحجة فيما ذكر قائمة على بني إسرائيل ومبينة أن مجاحدتهم ومعاندتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست بدعا من أمرهم ، ثم إنها عبرة بينة لكل من يفسق عن أمر ربه فيتخذ إلهه هواه ويعيش عيشة بهيمية . وذهب الجمهور أيضا إلى أن معنى ( كونوا قردة ) أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين ، والآية ليست نصا فيه ، ولم يبق إلا النقل ، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ؛ لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه ، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله - تعالى - في اللذين خلوا من قبل أن من يفسق عن أمر ربه ، ويتنكب الصراط الذي شرعه له ، ينزل عن مرتبة الإنسان ويلتحق بعجماوات الحيوان . وسنة الله - تعالى - واحدة ، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية ، ولذلك قال : ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ) أي جعلنا هذه العقوبة نكالا ، وهو ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره ؛ أي عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع عن اعتداء الحدود ، ومن هذه المادة ( النكل ) للقيد ، أو هو أصلها ومنها النكول عن اليمين في الشرع وهو الامتناع ، وما بين يديها يراد به من وقعت في زمنهم كما يراد بما خلفها من بعدهم إلى ما شاء الله - تعالى .

                          وأما كونها موعظة للمتقين ، فهو أن المتقي يتعظ بها في نفسه بالتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداؤها ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ( 2 : 187 ) ويعظ بها غيره أيضا ، ولا يتم كون تلك العقوبة نكالا للمتقدمين والمتأخرين وموعظة للمتقين ، إلا إذا كانت جارية على السنة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطباع ، وذلك ما هو معروف لأهل البصائر ، ومشهور عند عرفاء الأوائل والأواخر ( وحديث المسخ والتحويل ، وأن أولئك قد تحولوا من أناس إلى قردة وخنازير إنما قصد به التهويل والإغراب ؛ فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة ) .

                          [ ص: 286 ] وأقول : إنه ليس في تفسير الآية حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نص فيه على كون ما ذكر مسخا لصورهم وأجسادهم . وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره قول مجاهد في أن المسخ معنوي ، وقول الآخرين إنه صوري ، ثم قال : والصحيح أنه معنوي صوري ، فما مراده بذلك ؟ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية