الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 489 ] الثالثة : يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس عند الأئمة الأربعة . وقال ابن داود في شرح المختصر " : إن كلام الشافعي يصرح بالجواز . وحكى القاضي من الحنابلة عن أحمد روايتين . وبه قال أبو الحسين البصري ، وأبو هاشم آخرا . وحكاه الشيخ أبو حامد ، وسليم عن ابن سريج أنه يجوز من طريق العموم لا القياس ، وبناء على رأيه في جواز القياس في اللغة . وبهذا كله يعلم أن ما نقله المتأخرون عن ابن سريج ليس بصحيح .

                                                      وكذلك حكوا القول بالجواز مطلقا عن الأشعري وأنكره بعضهم ، وليس كذلك . فإن إمام الحرمين في مختصر التقريب " حكاه هكذا عن الأشعري ، وحكى القاضي في التقريب " عن الأشعري قولين في المسألة .

                                                      قال سليم الرازي : لا يتصور التخصيص على مذهب الأشعرية ، لأن اللفظ غير موضوع للعموم ، وإنما هو مشترك كما تقرر ، فإذا دل الدليل على أنه أريد به أحد الأمرين لم يكن تخصيصا وإنما هو بيان ما أريد به اللفظ انتهى .

                                                      وكذا نقله القاضي في التقريب " عن القائلين بإنكار الصيغ ، واختاره الإمام فخر الدين في المحصول " ، ولذلك استدل على ترجيحه حيث قال : لنا أن العموم والقياس . إلخ ، لكنه اختار في المعالم " المنع ، وأطنب في نصرته ، وهذا الكتاب موضع لاختياراته ، بخلاف المحصول " فإنه موضوع لنقل المذاهب وتحرير الأدلة ، ثم إنه صرح في المحصول " في [ ص: 490 ] أثناء المسألة بأن الحق ما قاله الغزالي فيما سيأتي في السادس .

                                                      والثالث : المنع مطلقا قاله أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ثم رجع ابنه ووافق الجمهور . ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن أحمد بن حنبل ، وإنما هي رواية عنه ، قال بها طائفة من أصحابه ; ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين ، قال إمام الحرمين في التلخيص " : منهم ابن مجاهد من أصحابنا . ونقله القاضي في التقريب " عن الشيخ أبي الحسن أيضا ، ونقله الشيخ أبو إسحاق في اللمع " عن اختيار القاضي أبي بكر الأشعري ، وليس كذلك لما سيأتي .

                                                      وقال بعض المتأخرين : إنه ظاهر نص الشافعي في الأم " وقال الشيخ أبو حامد : زعموا أن الشافعي نص عليه في أحكام القرآن " ; فإنه قال : إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بحديث لازم ، فأما أن يعمد إلى حديث عام فيحمل على القياس ، فأين القياس في هذا الموضع ؟ إن كان الحديث قياسا فأين المسمى ؟

                                                      قال : فقد ذكر الشافعي أن القياس لا يعمل في الحديث العام ، وإنما يعمل في أنه يبتدأ به الحكم في موضع لا يكون فيه حديث ، أو قياس على موضع فيه حديث . فدل على أن مذهبه منع التخصيص بالقياس .

                                                      ورده الشيخ أبو حامد ، وقال : قد ذكر الشافعي في الأم " قول الله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } واحتمل أمره تعالى في الإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب ، كقوله عليه الصلاة والسلام : { لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل } واحتمل أن يكون على الندب ، كقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقال الشافعي . لما [ ص: 491 ] جمع الله بين الطلاق وبين الرجعة وأمر بالإشهاد فيهما ، ثم كان الإشهاد على الطلاق غير واجب ، كذلك الإشهاد على الرجعة .

                                                      قال الشيخ أبو حامد : قد قاس الشافعي الإشهاد على الرجعة على الإشهاد على الطلاق ، وخص به ظاهر الأمر بالإشهاد إذ ظاهر الأمر الوجوب .

                                                      قال : وإما الكلام الذي تعلق به ذلك القائل ، فلم يقصد الشافعي منع التخصيص بالقياس ، وإنما قصد أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس . وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي ، فروى حديث : { أيما امرأة نكحت } ، ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا : العلة في طلب الولي أنه يطلب الحظ للمنكوحة ، ويضعها في كفء ، فإذا تولت هي ذلك لم يحتج إلى الولي فقال الشافعي : هذا القياس غير جائز ، لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث فيسقطه ، فإن ما ذكره يفضي إلى سقوط اعتبار الولي وذلك يسقط نص الخبر ، واستعمال القياس هنا لا يجوز ، إنما يجوز حيث يخص العموم انتهى .

                                                      وحاصله أن استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال لا يجوز ، وهو ما ذكره الشافعي ، وليس مراده تخصيص العموم بالقياس ، فإن ذلك لا يبطل العموم .

                                                      المذهب الثالث : إن تطرق إليه التخصيص بدليل قطعي خص به وإلا فلا . وحكاه القاضي في التقريب " عن عيسى بن أبان ، وكذا الشيخ أبو إسحاق في اللمع " ، وحكى الإمام عنه إن تطرق إليه التخصيص [ ص: 492 ] بغير القياس جاز ، وإلا فلا ، وكذا حكاه الشيخ في اللمع " عن بعض العراقيين .

                                                      الرابع : إن تطرق إليه التخصيص بمنفصل جاز ، وإلا فلا ، قاله الكرخي . وقال : أبو بكر الرازي : كل ما لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ، لا يجوز تخصيصه بالقياس لأن خبر الواحد مقدم على القياس ، فما لا يخصه أولى أن لا يخص بالقياس . وقال : هذا مذهب أصحابنا ، ونقله عن محمد بن الحسن ، لأن كل ما ثبت بوجه قطعي لا يرتفع إلا بمثله .

                                                      وقال أبو زيد في التقويم " : لا يجوز عندنا تخصيص العام ابتداء بالقياس ، وإنما يجوز إذا ثبت خصوصه بدليل يجوز رفع الكل لها من خبر تأيد بالإجماع أو الاستفاضة ، لم يقع الإشكال في صارفه إنما من جنس دخل تحت الخصوص ، أو من جنس ما بقي تحت العموم ، فيتعرف ذلك بالقياس .

                                                      الخامس : إن كان القياس جليا جاز التخصيص به ، وإن كان قياس شبه أو علة فلا ، نقله الشيخ أبو حامد وسليم في التقريب " عن الإصطخري ، زاد الشيخ أبو حامد : وإسماعيل بن مروان من أصحابنا ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي ، ومبارك بن أبان وابن علي الطبري .

                                                      وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني القياس إن كان جليا مثل : { فلا تقل لهما أف } جاز التخصيص به بالإجماع . وإن كان واضحا ، وهو المشتمل على جميع معنى الأصل ، كقياس الربا ، فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا ، إلا طائفة شذت لا يعتد بقولهم . وإن كان خفيا وهو قياس علة الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به . ومنهم من شذ فجوزه . [ ص: 493 ] وقال ابن كج : قياس الأصل وقياس العلة لا يختلف المذهب أن التخصيص بهما سائغ جائز ، وعليه عامة الفقهاء ، ومنعه داود ; وأما قياس الشبه فاختلف فيه أصحابنا على وجهين ، ثم نبه على المراد بالتخصيص بالقياس أن ما دخل تحت العموم في اللفظ بين القياس أن ذلك لم يكن داخلا في اللفظ ، لا أنه دخل في المراد ، ثم أخرجه القياس ; لأن ذلك يكون نسخا ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس .

                                                      وقال الأستاذ أبو إسحاق وأبو منصور : أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي ، واختلفوا في الخفي على وجهين ; والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضا . وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني في باب القضاء . وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع ، ثم اختلفوا في الجلي وهو الذي قضى القاضي بخلافه . وقيل : هو قياس المعنى ، والخفي قياس وقيل : ما تتبادر علته إلى الفهم مثل : { لا يقضي القاضي وهو غضبان } .

                                                      السادس : إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى ، فيرجع العام بظهور قصد التعميم فيه ويكون القياس العارض له قياس شبه ، ويرجح القياس بالعكس من ذلك . فإن تعادلا فالوقف وهو مذهب الغزالي ، واختاره المطرزي في العنوان " واعترف الإمام الرازي في أثناء المسألة بأنه حق ، وكذا قال الأصفهاني شارح المحصول " وابن الأنباري [ ص: 494 ] وابن التلمساني ، واستحسنه القرافي والقرطبي ، وقال : لقد أحسن في هذا الاختيار أبو حامد ، فكم له عليه من شاكر وحامد .

                                                      وقال الشيخ في شرح العنوان " : أنه مذهب جيد ، فإن العموم قد تضعف دلالته لبعد قرينته ، فيكون الظن المستفاد من القياس الجلي راجحا على الظن المستفاد من العموم الذي وصفناه ، وقد يكون الأمر بالعكس ، بأن يكون العموم قوي الرتبة ، ويكون القياس قياس شبه ، والقاعدة الشرعية : أن العمل بأرجح الظنين واجب .

                                                      واعلم أن هذا الذي قاله الغزالي ليس مذهبا ، ولم يقله الرجل على أنه مذهب مستقل ، فتأمل المستصفى " تجد ذلك . ولا يقول أحد : إن الظن المستفاد من العموم أقوى ، ثم يقول : القياس تخصيص أو بالعكس ، ولا خلاف بين العقلاء أن أرجح الظنين عند التعارض معتبر ، والوقوف عند المستوي ضروري ، إنما الشأن في بيان الأرجح ما هو ؟ ففريق قالوا : إن الأرجح العموم ، فلا يخص بالقياس ، وهو الإمام في المعالم " وقوم قالوا : الأرجح القياس ، فيخص العموم . والقولان عن الأشعري ، كما حكاه القاضي في التقريب .

                                                      السابع : الوقف في القدر الذي تعارضا فيه ، والرجوع إلى دليل آخر سواها ، وهو مذهب الغزالي ، واختاره إمام الحرمين ، والغزالي في المنخول " ، وإلكيا الطبري .

                                                      قال : ولا يظهر فيه دعوى القطع من الصحابة بخلافه في خبر الواحد . وهذا المذهب شارك القول بالتخصيص من وجه ، وباينه من وجه ، أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج ، والواقف يقول به ، وأما المباينة ، فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس ، والواقف لا يحكم به .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية