الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 482 ] البحث الثاني في تخصيص المقطوع بالمظنون

                                                      وفيه مسائل : الأول : يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور ، وهو المنقول عن الأئمة الأربعة ، فإن الخبر يتسلط على فحواه ، وفحواه غير مقطوع به . قال إمام الحرمين : ومن شك أن الصديق لو روى خبرا عن المصطفى في تخصيص عموم الكتاب لابتدره الصحابة قاطبة بالقبول ، فليس على دراية في قاعدة الأخبار .

                                                      واحتج ابن السمعاني في باب الأخبار على الجواز بإجماع الصحابة ، فإنهم خصوا قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } بقوله عليه السلام : { إنا معشر الأنبياء لا نورث } فإن قالوا : إن فاطمة ( رضي الله عنها ) طلبت الميراث ؟ قلنا : إنما طلبت النحلى لا الميراث وخص الميراث بالمسلمين عملا بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يرث المسلم الكافر } وخصوا قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم [ ص: 483 ] الربا } [ بما ورد ] عن أبي سعيد في بيع الدرهم بالدرهمين . وخصوا قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس : { سنوا بهم سنة أهل الكتاب } والمجوس مشركون .

                                                      وأما قول عمر ( رضي الله عنه ) : لا ندع كتاب الله ولا سنة نبينا لقول امرأة فيحتمل أن يكون معناه لا ندع كتاب نبينا نسخا ، فإنه لا يقال لمن خص آية من القرآن . أنه ترك القرآن ، وإنما يقال ذلك لمن ادعى النسخ انتهى .

                                                      والقول الثاني : المنع مطلقا ، وبه قال بعض الحنابلة ، كما حكاه أبو الخطاب ونقله الغزالي في المنخول " عن المعتزلة ، لأن الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن ، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء . ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق ، وأنهم لأجله منعوا الحكم بالقرعة ، وبالشاهد واليمين . ولنا أن الله تعالى [ ص: 484 ] أمرنا باتباع نبيه ، ولا فرق بين أن يكون مخصصا للظاهر أو مبتدئا ، ولا معنى لإمكان التخصيص مع القول بحجية خبر الواحد قال أهل العراق " به " في الجملة وخالفونا في التفصيل ، فقالوا : وقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أنه مخصوص بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا تنكح المرأة على عمتها } وهو خبر واحد ، وكذا قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية فقالوا : بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع .

                                                      الثالث : التفصيل بين ما دخله التخصيص ، وما لم يدخله ، فإن لم يدخله يبقى على حقيقته ، وما دخله بقي مجازا ، وضعفت دلالته ، ونقلوه عن عيسى بن أبان . وهو مشكل بما سبق عنه من أن العام المخصوص ليس بحجة ، لأنه إذا كان حجة لم يبق للقول بتخصيصه فائدة ، إذ فائدة التخصيص بيان أن الصورة المخصوصة لا يتناولها حكم العموم ، والتقدير : لم يبق له حكم ، أو له حكم مجمل غير معلوم ، فيحتاج إلى البيان ، فكيف يجتمع القول بكونه لا يبقى حجة ، مع قوله بجواز تخصيصه بخبر الواحد ، .

                                                      وقد حكى إمام الحرمين في التلخيص من كتاب التقريب " عنه أنه إن خص بقطعي جاز تخصيص باقيه بخبر الواحد ، وإلا فلا يجوز افتتاح تخصيصه به . ثم قال : وهذا مبني على أصل له قدمناه ، وهو أن العموم إذا خص بعضه صار مجملا في بقية المسميات لا يسوغ الاستدلال به فيها . فجعل الخبر على التحقيق مثبتا حكما ابتداء ، وليس سبيله سبيل التخصيص إذا حققته ، فإنه لا يجوز الاستدلال باللفظ المجمل في عموم ولا خصوص قبل ورود الخبر وبعده . انتهى . [ ص: 485 ] ولم أر ذلك في التقريب " للقاضي وإنما حكي عنه تجويز تخصيص العام الذي أجمع على تخصيصه ، أو قام الدليل على تخصيصه بكل وجه ، لأنه بالتخصيص حينئذ مجملا ومجازا ، فيجوز لذلك إعمال خبر الواحد في تخصيص أشياء أخر منه .

                                                      ونحوه قول الشيخ أبي حامد عن أبي حنيفة : إن كانت الآية العامة دخلها التخصيص جاز تخصيصها بخبر الواحد ، لأنها تصير بالتخصيص كالمجملة ، فيكون ذلك كالبيان وبيان المجمل بخبر الواحد يجوز .

                                                      وقال في المحصول " : فأما قول عيسى بن أبان والكرخي فيبنيان على حرف واحد ، وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز ، والمخصوص بالدليل المنفصل عند الكرخي مجاز ، وإذا صار مجازا صارت دلالته مظنونة ، ومتنه مقطوعا ، وخبر الواحد متنه مظنون ودلالته مقطوعة ، فيحصل التعادل . فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في العموم ، فيكون قاطعا في متنه ودلالته ، فلا يرجح عليه المظنون .

                                                      وهذا المأخذ الذي ذكروه تردد فيه أبو بكر الرازي في أصوله ، فقال : إن لم يثبت خصوصه بالاتفاق ، لم يجز تخصيصه ، وإلا فإن ثبت واحتمل اللفظ معاني واختلف السلف فيها ، وكان اللفظ يفتقر على البيان جاز تخصيصه ، وتبيينه بخبر الواحد .

                                                      قال : وهذا عندي مذهب أصحابنا ، وعليه تدل أصولهم ومسائلهم ، واحتج بكلام عيسى بن أبان ، وذكره . قال : فنص عيسى على أن ظاهر القرآن الذي لم يثبت خصوصه بالاتفاق لا يخص بخبر الواحد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون قال ذلك لأنه كان من مذهبه أن العام إذا خص سقط الاستدلال به فيما عدا المخصوص على ما كان يذهب إليه الكرخي ; ويحتمل [ ص: 486 ] أن يكون مذهبه القول بعموم اللفظ فيما عدا المخصوص ، لأنه أجاز تخصيص الباقي مع ذلك بخبر الواحد ; لأن ما ثبت خصوصه بالاتفاق مما سوغ الاجتهاد في ترك حكم اللفظ لأنه صار مجازا ، أما إذا كان اللفظ محتملا لمعان فيقبل خبر الواحد في إثبات المراد به . انتهى .

                                                      ونقل الأستاذ أبو منصور عن عيسى أنه لا يجوز أن يخص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أن يكون قد خص بالإجماع فيزاد في تخصيصه بخبر الواحد . قال : وقال : وإن كانت الآية مجملة ، واختلف السلف في تأويلها ، قبل خبر الواحد في تفسيرها وتخصيصها .

                                                      وقال بعض المحققين من الحنفية : لا خلاف بين أصحابنا في أن العام إذا خص منه شيء بدليل مقارن جاز تخصيصه بعد ذلك متراخيا ، وأما العام الذي لم يخص منه شيء فلا يجوز تخصيصه ابتداء بدليل يتأخر عنه عند الشيخ أبي الحسن الكرخي ، وعامة المتأخرين من أصحابنا ، وعند بعض أصحابنا وأكثر الشافعية يجوز تخصيصه متراخيا ابتداء ، كما يجوز متصلا

                                                      قال : والمراد بعدم جواز التخصيص بالمتأخر أن المتأخر لا يكون بيانا ; فإن المراد من العام بعضه ابتداء كما هو شأن التخصيص ; بل يكون ناسخا لبعض أفراد العام بإخراجه عن حكم العام ; بل بعد ثبوت الحكم فيه مقتصرا على الحال .

                                                      الرابع : إن كان التخصيص بدليل منفصل جاز ، وإن كان بمتصل فلا ، قاله الكرخي ، لأن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا على مذهبه ، فتضعف دلالته ، وهذا المذهب وما قاله مبني على أن دلالة العام على أفراده قطعية ، فإن قلنا : ظنية جاز التخصيص به ، ولهذا قال ابن السمعاني : [ ص: 487 ] ما قاله ابن أبان مبني على أصل لا نوافقه عليه

                                                      الخامس : يجوز التعبد بوروده ، ويجوز أن يرد لكنه لم يقع ، حكاه القاضي في التقريب " وحكى قولا آخر أنه لم يرد ; بل ورد المنع منه .

                                                      السادس : الوقف . ثم قيل : بمعنى لا أدري . وقيل : بمعنى أنه يقع التعارض في ذلك القدر الذي دل العموم على إثباته والخصوص على نفيه ، ويجري اللفظ العام من الكتاب . في بقية مسمياته ، لأن الكتاب أصله قطعي ، وفحواه مظنون ، وخبر الواحد عكسه ، فيتعارضان ، فلا رجحان ، فيجب الوقف .

                                                      وهذا قول القاضي أبي بكر في التقريب " ، وحكاه عنه إمام الحرمين في التلخيص " وإلكيا الطبري : وقال هو متجه جدا ، ولكن الصحيح الجواز ، لإجماع الصحابة عليه في مسائل ، كنفي ميراث القاتل بقوله : { لا يرث القاتل } ، مع قوله : { يوصيكم الله } والنهي عن الجمع بين [ المرأة وعمتها ] مع قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إلى غير ذلك . وغاية المخالف أن يقول : لعل الخبر كان متواترا عندهم ، ثم استغنى عنه فصار آحادا ، فقيل لهم : قد روى الصديق ; { إنا معشر الأنبياء لا نورث } وطرحوا به ميراث فاطمة ( رضي الله عنها ) ، فقالوا : كانوا علموا ذلك ، وإنما ذكرهم الصديق . قلنا : لو كان متواترا لم يخف على فاطمة . ا هـ . تنبيهان

                                                      الأول : يجب على أصل القاضي أن يجزم بالتخصيص ، لأن القياس عنده مساو لعموم الكتاب لوقوفه في تخصيصه له كما سيأتي ، فكيف يساوي هو ما دونه ؟ [ ص: 488 ]

                                                      الثاني : ذكر ابن السمعاني أن الخلاف في أخبار الآحاد التي [ لا ] تجمع الأمة على العمل بها ، أما ما أجمعوا عليه ، كقوله : { لا ميراث لقاتل ، ولا وصية لوارث } وكنهيه عن الجمع ، فيجوز تخصيص العموم به قطعا ، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها ، ولا يضير عدم انعقاده على روايتها . وقد سبق في كلام الأستاذ أبي منصور ذلك أيضا ، فإنه ألحق هذا القسم بالمتواتر . وقال ابن كج في كتابه : خبر الواحد يخص به ظاهر الكتاب عندنا ، إذا كان لم يجتمع على تخصيصه كآية الرضاع ، فإن أجمع على تخصيصه جاز أن يقضى عليه بخبر الواحد فيما عدا ما أجمعوا عليه كآية السرقة وذهب قوم إلى أنه لا يجوز .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية